بينما كان ربنا يسوع فى رحلة خلوية مع أصدقائه التلاميذ يوم الراحة الأسبوعية (السبت)، اجتاز بين الزروع، فأبتدأ تلاميذه يقطفون السنابل وهم سائرون..
هذا التصرف أثار حفيظة الفريسيين الذين كانوا يتتبعونه ليصطادوا عليه الأخطاء.. فتقدموا إليه قائلين أنظر.. لماذا يفعلون مالا يحل فى السبت؟.. أما يسوع فنظر إليهم بشفقة وحيرة.. كيف لا تقرءون؟ وإن قرأتم فلماذا لا تفهمون؟.. وإن فهمتم فلماذا تنتقدون؟ أما قرأتم داود حين احتاج وجاع هو والذين معه؟.. "السبت إنما جعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت" (راجع مر 23:2-28).
إنها قاعدة أساسية فى فهم العلاقة مع الله الإنسان هو الهدف..
"وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة ويكون لهم أفضل" (يو 10:10).
إن الإنسان عزيز فى عينى الرب ومكرم جداً "ولذاتى مع بنى آدم" (أم 31:8)، وكل ما صنعه ويصنعه معنا يعمله كمحب للبشر الوصايا والناموس والخليقة والفداء، التجسد والصعود.. وكل ما فى علاقاتنا مع الله إنما هو برهان تقدير الله للإنسان واعتزازه بهذه الخليقة الحسنة جداً فى نظره والجديرة بأن تكون على صورة الله كشبهه ومثاله ، إنه يصنع معنا أكثر مما نسأل أو نفهم (القداس الغريغورى).
1- الإنسان شريك :
ليس الفرد فى الكنيسة كماً مهملاً مهمشاً.. ولكنه شريك فى كل شئ، كعضو حى فى جسد واحد كبير يتسع ليضم - بالمعمودية والافخارستيا - كل المؤمنين بربنا يسوع من آدم إلى آخر الدهور.. الإنسان فى الكنيسة ليس ترساً فى آلة كبيرة كما ينظر إليه الماديون ولكنه عضو حى فى جسد حى.
عندما أحب الله العالم فبذل ابنه الوحيد عن حياة الناس.. لم يكن هدف هذا البذل هو خلاص الناس جبرياً بل قيل "لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 16:3)، هناك مساحة كبيرة مخصصة للإنسان لكى يعلن رأيه وقبوله أو رفضه، إيمانه أو نكرانه إن الخلاص هو فقط لمن يقبل ويؤمن تمجيداً لرأى الإنسان وتأكيداً لحريته.
إن التجسد فى حد ذاته لهو أكبر برهان على احترام الله للدور الإنسان فهو لم يرد أن يخلصنا بقرار منفرد - بلاهوته فقط - بل أراد من أجل مجد الإنسان أن يشرك الناسوت فى القضية..
والتفسير الأرثوذكسى للتجسد يبرز هذا الدور الإنسانى ببهاء كامل.. فنحن لا نلغى دور الله كما يفعل الأريوسيون ونحن لا نفصل بين اللاهوت والناسوت كما يعمل النساطرة، وكذلك لا نتجاهل الدور الإنسانى كما يظن الأوطاخيون..
بل نفهم - حسب الآباء - أن التجسد معناه اتحاد اللاهوت (الله) بالناسوت (الإنسان) دون أدنى تغيير لا فى اللاهوت (طبعاً) ولا فى الناسوت أيضاً (بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير).
بل بقيت الطبيعة الإنسانية على حالها، تتعب وتتـألم وتموت، ومع ذلك فهى متحدة اتحاداً كاملاً بالطبيعة الإلهية بدون انفصال وبدون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا تشويش..
برهاناً على أن الإنسان مقبول كما هو.. ومدعو أن يكون شريكاً كاملاً دون أن تتحور صفاته ودون أن يتطلب ذلك منه إمكانيات أوسع من إمكانياته الإنسانية العادية.
لقد صرنا شركاء الطبيعة الإلهية (2 بط 4:6) بسبب التجسد، ودور الكنيسة هو "تكميل القديسين لعمل الخدمة لبنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهى جميعنا إلى وحدانية الإيمان، ومعرفة ابن الله إلى إنسان كامل إلى قياس قامة ملء المسيح" (أف 12:4،13).
كل ما فى الكنيسة من خدمة وعمل روحى هدفه أن نصل جميعاً معاً إلى إنسان كامل وفى المعمودية نلبس "الإنسان الجديد بحسب الله فى البر وقداسة الحق" (أف 24:4) وحتى التأديب فى الكنيسة هدفه أن نشترك فى قداسة المسيح "لأن أولئك - آباء الجسد أدبونا أياماً قليلة حسب استحسانهم، وأما هذا فلأجل المنفعة لكى نشترك فى قداسته" (عب 10:12).
والبركة الرسولية التى يعطيها الكاهن للشعب فى ختام الصلوات الليتورجية يقول فيها "محبة الله الآب، ونعمة الابن الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصاً يسوع المسيح، وشركة وموهبة الروح القدس تكون مع جميعكم".
إننا لا نستطيع أن نتذوق محبة الله أو ننال نعمة الابن إلا بشركة الروح القدس، لذلك ففى الفكر الأرثوذكسى لا يمكن أن يخلص الإنسان بالنعمة دون شركة الجهاد.. إن الله عندما يطالبنا بالجهاد لننال النعمة إنما يعلن بذلك عن تقديره للدور الإنسانى فى خلاص نفوسنا "الله الذى خلقك بدونك لا يمكن أن يخلصك بدونك".
2- الإنسان مقدس :
إذا تتبعنا مسيرة بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر وعبور البحر الأحمر نجدها سلسلة
من التذامرات والجحود والميول الرديئة إلى مصر وشهوات مصر.. ومع ذلك قيل "لم يبصر إثماً فى يعقوب ولا رأى تعباً فى إسرائيل" (عد 21:23).
ما هذا أيها الفادى؟ إنه الحب الذى ينسى الإساءة، والقلب الكبير الذى يبتلع الجحود ، إنها الوعود القديمة للآباء "ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم، هل يقول ولا يفعل؟ أو يتكلم ولا يفى؟" (عد 19:23) أنه يبارك من أجل إبراهيم واسحق ويعقوب، ويغفر من أجل داود عبده.. فكم بالحرى لنا - نحن المسيحيين - من اجل المسيح ابن الله الحى.
الإنسان مقدس لأنه مسكن للروح القدس بالمعمودية والميرون "أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم" (1كو 19:3)، "أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس، الذى فيكم الذى لكم من الله، وأنكم لستم لأنفسكم لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجدوا الله، فى أجسادكم وفى أرواحكم التى هى لله" (1كو 19:6-20).
والإنسان مقدس لأن الروح القدس يتجدد فيه يومياً بالصلاة والقداس، بالتوبة والاعتراف، بالإنجيل والتسبيح، وبالافخارستيا والخدمة "صيرنا أطهاراً بروحك القدوس" القداس الباسيلى.
هذا لا تنزعه منا أيها الصالح، بل جدده فى داخلنا يا ربنا يسوع المسيح ابن الله الكلمة، روحاً مستقيماً محيياً، روح النبوة والعفة، روح القداسة والعدالة والسلطة (الأجبية - صلاة الساعة الثالثة).
إن القداسة التى يمنحها لنا الله فى الكنيسة هى التى تؤهلنا للتناول من الأسرار المقدسة "القدسات للقديسين".. أى التناول للقديسين فقط.. هؤلاء القديسين الذين يقفون أمام الله طوال القداس حاسبين أنفسهم خطاة ومذنبين ويقدمون توبة رائعة بحب عظيم وهم فى نظر الله "قديسين وبلا لوم قدامه فى المحبة" (أف 4:1)، "أنا سوداء (فى نظرى) - وجميلة (فى نظر المسيح)" (نش 5:1).
ربى يسوع.. أننى أدرك.. أن القداسة جبل عال لا يمكننى أن أتسلقه كأبى أنطونيوس والبار مكاريوس.. ولكننى أثق أنك تحملنى على أجنحة النسور لترتقى بى الجبال العالية وتجلسنى هناك حيث القداسة بروحك القدوس..
3- الإنسان ابن الله :
"انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله" (1يو1:3)، "الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا إننا أولاد الله" (رو 16:8).
أن المعمودية فى الكنيسة هى أعظم ترقية للإنسان، هى نعمة التبنى لله الآب وهى التى تنبأ عنها هوشع قائلاً: "ويكون عوضاً عن أن يقال لهم لستم شعبى (الأمم) يقال لهم أبناء الله الحى" (هو 10:1).
المعمودية هى القبول العملى لصليب المسيح "مدفونين معه فى المعمودية" (كو 12:2)، "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أى المؤمنين باسمه، الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة رجل بل من الله" (يو 12:1،13).
أنها تحقيق الوعد الإلهى "وأكون لكم أباً وأنتم تكونون لى بنين وبنات، يقول الرب القادر على كل شئ" (2كو 18:6).
"لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع، لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح، قد لبستم المسيح" (غل 26:3-27).
وهذا هو رجاؤنا فى اليوم الأخير "من يغلب يرث كل شئ - كابن - وأكون له إلهاً وهو يكون لى بناً" (رؤ 7:21).
أن بنوتنا لله التى ننالها فى المعمودية هى سر نعمتنا التى نحن فيها مقيمون.. هى علة دخولنا إلى الكنيسة بيت الاب.. وهى علة تناولنا من جسد الرب ودمه الأقدسين..
وهى سر استنارتنا وفهمنا للأقوال المقدسة.. وفى النهاية هى سر ميراثنا لملكوت السموات.
هل كنا نجرؤ أن نصرخ إلى الآب السماوى ونناديه يا أبانا الذى فى السموات دون أن نكون أبناء؟! ومن كان سيعطينا أن نسبحه مع الملائكة والسمائيين.. "الذى ثبت قيام صفوف غير المتجسدين (الملائكة) فى (بين صفوف) البشر، الذى أعطى الذين على الأرض تسبيح السيرافيم أقبل منا نحن أيضاً أصواتنا مع غير المرئيين احسبنا مع القوات السمائية" القداس الغريغورى.
لقد شبه أحدهم من يصلى بمن يخترق صفوف الحجاب والأمن والوزراء لكى يتكلم مع الملك فى أذنه من هذا الذى يجرؤ أن يتكلم مع الملك بدالة إلا الابن.
أن الصلاة فى حد ذاتها هى أعظم دليل على تقدير الله للإنسان وتكريم مكانته فالباب مفتوح دائماً للحديث مع الله بل أننى اتجاسر وأقول إن الله نفسه يتودد إلى النفس البشرية لكى تتحادث معه.. ويقف على الباب بنفسه قارعاً مؤملاً أن نفتح باب القلب وندخل فى عشرة حب كم هو عزيز الإنسان فى عينى الرب.
4- ماذا بعد هذا؟!!
"أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سنكون ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو" (1يو 2:3).
ماذا؟! هل لم يكتف الله بأن نكون أبناءه؟.. ويريد لنا ترقية أعظم.. ماذا بعد اتحادنا به فى الافخارستيا حتى نصير ثابتين فيه وهو فينا؟!
ماذا بعد أن ينحنى المسيح فى اللقان ويغسل قاذورات أقدامنا أو بالحرى قاذورات أرواحنا؟..
ماذا بعد أن أشركنا فى خدمته وحسبنا أمناء على كنيسته "واعطى البعض أن يكونوا رسلاً والبعض أنبياء والبعض مبشرين والبعض رعاة ومعلمين" (أف 11:4).
أنه حب ما بعده حب ورغبة عطاء لا يمكن التعبير عنها..
ولكن ماذا نقول؟ إنه الله.. والله غير محدود فى حبه وغير محدود فى عطائه..
"وليس شئ من النطق يستطيع أن يحد لجة محبتك للبشر" القداس الغريغورى.