سفر التكوين - الأصحاح الرابع
سفر التكوين - الأصحاح الرابع
سفر التكوين - الأصحاح الرابع
1وَعَرَفَ آدَمُ حَوَّاءَ امْرَأَتَهُ فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ قَايِينَ. وَقَالَتِ: «اقْتَنَيْتُ رَجُلاً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ». 2ثُمَّ عَادَتْ فَوَلَدَتْ أَخَاهُ هَابِيلَ. وَكَانَ هَابِيلُ رَاعِيًا لِلْغَنَمِ، وَكَانَ قَايِينُ عَامِلاً فِي الأَرْضِ. 3وَحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَيَّامٍ أَنَّ قَايِينَ قَدَّمَ مِنْ أَثْمَارِ الأَرْضِ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ، 4وَقَدَّمَ هَابِيلُ أَيْضًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ وَمِنْ سِمَانِهَا. فَنَظَرَ الرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ، 5وَلكِنْ إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ. فَاغْتَاظَ قَايِينُ جِدًّا وَسَقَطَ وَجْهُهُ. 6فَقَالَ الرَّبُّ لِقَايِينَ: «لِمَاذَا اغْتَظْتَ؟ وَلِمَاذَا سَقَطَ وَجْهُكَ؟ 7إِنْ أَحْسَنْتَ أَفَلاَ رَفْعٌ؟ وَإِنْ لَمْ تُحْسِنْ فَعِنْدَ الْبَابِ خَطِيَّةٌ رَابِضَةٌ، وَإِلَيْكَ اشْتِيَاقُهَا وَأَنْتَ تَسُودُ عَلَيْهَا».
8وَكَلَّمَ قَايِينُ هَابِيلَ أَخَاهُ. وَحَدَثَ إِذْ كَانَا فِي الْحَقْلِ أَنَّ قَايِينَ قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ. 9فَقَالَ الرَّبُّ لِقَايِينَ: «أَيْنَ هَابِيلُ أَخُوكَ؟» فَقَالَ: «لاَ أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟» 10فَقَالَ: «مَاذَا فَعَلْتَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ الأَرْضِ. 11فَالآنَ مَلْعُونٌ أَنْتَ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي فَتَحَتْ فَاهَا لِتَقْبَلَ دَمَ أَخِيكَ مِنْ يَدِكَ. 12مَتَى عَمِلْتَ الأَرْضَ لاَ تَعُودُ تُعْطِيكَ قُوَّتَهَا. تَائِهًا وَهَارِبًا تَكُونُ فِي الأَرْضِ». 13فَقَالَ قَايِينُ لِلرَّبِّ: «ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَلَ. 14إِنَّكَ قَدْ طَرَدْتَنِي الْيَوْمَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَخْتَفِي وَأَكُونُ تَائِهًا وَهَارِبًا فِي الأَرْضِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ وَجَدَنِي يَقْتُلُنِي». 15فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «لِذلِكَ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَايِينَ فَسَبْعَةَ أَضْعَافٍ يُنْتَقَمُ مِنْهُ». وَجَعَلَ الرَّبُّ لِقَايِينَ عَلاَمَةً لِكَيْ لاَ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ. 16فَخَرَجَ قَايِينُ مِنْ لَدُنِ الرَّبِّ، وَسَكَنَ فِي أَرْضِ نُودٍ شَرْقِيَّ عَدْنٍ.
17وَعَرَفَ قَايِينُ امْرَأَتَهُ فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ حَنُوكَ. وَكَانَ يَبْنِي مَدِينَةً، فَدَعَا اسْمَ الْمَدِينَةِ كَاسْمِ ابْنِهِ حَنُوكَ. 18وَوُلِدَ لِحَنُوكَ عِيرَادُ. وَعِيرَادُ وَلَدَ مَحُويَائِيلَ. وَمَحُويَائِيلُ وَلَدَ مَتُوشَائِيلَ. وَمَتُوشَائِيلُ وَلَدَ لاَمَكَ. 19وَاتَّخَذَ لاَمَكُ لِنَفْسِهِ امْرَأَتَيْنِ: اسْمُ الْوَاحِدَةِ عَادَةُ، وَاسْمُ الأُخْرَى صِلَّةُ. 20فَوَلَدَتْ عَادَةُ يَابَالَ الَّذِي كَانَ أَبًا لِسَاكِنِي الْخِيَامِ وَرُعَاةِ الْمَوَاشِي. 21وَاسْمُ أَخِيهِ يُوبَالُ الَّذِي كَانَ أَبًا لِكُلِّ ضَارِبٍ بِالْعُودِ وَالْمِزْمَارِ. 22وَصِلَّةُ أَيْضًا وَلَدَتْ تُوبَالَ قَايِينَ الضَّارِبَ كُلَّ آلَةٍ مِنْ نُحَاسٍ وَحَدِيدٍ. وَأُخْتُ تُوبَالَ قَايِينَ نَعْمَةُ. 23وَقَالَ لاَمَكُ لامْرَأَتَيْهِ عَادَةَ وَصِلَّةَ: «اسْمَعَا قَوْلِي يَا امْرَأَتَيْ لاَمَكَ، وَأَصْغِيَا لِكَلاَمِي. فَإِنِّي قَتَلْتُ رَجُلاً لِجُرْحِي، وَفَتىً لِشَدْخِي. 24إِنَّهُ يُنْتَقَمُ لِقَايِينَ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ، وَأَمَّا لِلاَمَكَ فَسَبْعَةً وَسَبْعِينَ».
25وَعَرَفَ آدَمُ امْرَأَتَهُ أَيْضًا، فَوَلَدَتِ ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ شِيثًا، قَائِلَةً: «لأَنَّ اللهَ قَدْ وَضَعَ لِي نَسْلاً آخَرَ عِوَضًا عَنْ هَابِيلَ». لأَنَّ قَايِينَ كَانَ قَدْ قَتَلَهُ. 26وَلِشِيثَ أَيْضًا وُلِدَ ابْنٌ فَدَعَا اسْمَهُ أَنُوشَ. حِينَئِذٍ ابْتُدِئَ أَنْ يُدْعَى بِاسْمِ الرَّبِّ.
سفر التكوين - الأصحاح الرابع
موقع الموجة القبطية - الكتاب المقدس - العهد القديم - سفر التكوين - الأصحاح الرابع
تفسير سفر التكوين - الأصحاح الرابع
الأصحاح الرابع هابيل وقايين إن كانت الخطية قد انطلقت من حواء إلى آدم خلال غواية الحية فقد جاء النسل كله يحمل ميكروبها في طبيعتهم، وكما يقول الرسول: "من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع" (رو 5: 12). وقد ظهر ذلك بقوة في قايين الذي لم يحتمل قبول الله ذبيحة أخيه فارتكب أول حالة قتل في تاريخ البشرية. وقد اهتم كثير من الآباء بقصة هابيل وقايين بكونها قصة البشرية الساقطة التي حملت البغضة لبعضها البعض. 1. قبول تقدمة هابيل 1-7. 2. قتل هابيل 8-16. 3. أولاد قايين 17-24. 4. ميلاد شيث 25-26. 1. قبول تقدمة هابيل: "وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين، وقال: اقتنيت رجلاً من عند الرب" [1]. يري فيلون اليهودي الإسكندري بأن قايين وهابيل توأمان، لكن هذا الرأي لم يجد قبولاً لدي آباء الكنيسة الأولي. اعتمد بعض الأوريجانيين علي هذا النص الذي بين أيدينا ليعلنوا أن آدم عرف حواء كزوجة له بعد السقوط، وكأن العلاقة الزوجية الجسدية في نظرهم هي ثمرة السقوط؛ بل وبالغ البعض بالقول أن السقوط نفسه لم يكن إلاَّ ممارسة هذه العلاقة. هذا الرأي المتطرف رفضته الكنيسة بشدة منذ ظهوره، بل وهاجمته، فقد أكد آباء الكنيسة أن الله هو مؤسس الحياة الزوجية في صورتها الكاملة، وأنه بالسقوط أو بدونه كانت تتم العلاقة الجسدية بين أبوينا ويتحقق إنجاب الأطفال، لكن لا يتم ذلك خلال شهوة شريرة بل كثمرة حب زوجي طاهر. كما رفض الآباء فكرة أن سقوط أبوينا هو اتحادهم الجسدي، إذ يدنس هذا الرأي النظرة نحو الحياة الزوجية. علي أي الأحوال أدركت حواء أن طفلها هو عطية إلهية لذا دعته "قايين"، أي (مُقتنى) وقالت: "اقتنيت رجلاً من عند الرب" [1]. ولعل سر فرحها به أنها ظنت مجيء المخلص الموعود به من نسلها قد اقترب جدًا، وربما انتظرت أن يتحقق ذلك في أيامها. شعرت حواء أن ابنها مُقتنى من عند الرب، وكما يقول القديس أمبروسيوس في كتابه "قايين وهابيل": [يليق بنا أن ندرك أن الله هو الموجد والخالق، لذا نسبت حواء العمل لله، وعندما قالت: "اقتنين رجلاً (a man child) من عند الرب"، إنما قالت هذا لكي نتمثل نحن بها في المواقف المتشابهة، فلا نحسب أن النجاح هو من عندياتنا بل ننسبه بكامله لله[131]]. "ثم عادت فولدت هابيل" [2]. وقد رأي القديس أمبروسيوس أن قايين يمثل الفكر العقلاني البحت أو المدرسة العقلية، وربما قصد الغنوسيين الذين وضعوا المعرفة العقلية وحدها كطريق للخلاص عوض الإيمان، حاسبين أن الإنسان قادر بعقله دون عون إلهي أن يبلغ معرفة الله ويدرك أسراره، مبدعًا في الفكر والإحساس والعواطف والمشاعر والانفعالات. أما هابيل فيرمز لمدرسة الإيمان التي تستند علي نعمة الله لكي تتمتع بأسرار الله خلال الإيمان المعطي للإنسان دون تجاهل لعقله. فالإيمان لا يناقض العقل إنما يرفعه خلال إعلانات الله له، ويسمو به؛ وإن المدرستين بالرغم من تناقضهما إلاَّ انهما متصلتان معًا، وكأنهما أخوان صدرا عن رحم واحد، وإن كانا لا يستطيعان السكني معًا لزمان طويل. هذا وتقدم لنا قصة هابيل وقايين صورة حية لقصة بكورية الروح وبكورية الجسد، فإذ كان قايين بكرًا لآدم وحواء حسب الجسد لكنه فقد بكوريته خلال شره وظهرت بكورية هابيل الروحية بقبول ذبيحته بل وحياته كلها موضع سرور الله دون أخيه. هكذا يري القديس أغسطينوس في قايين رمزًا لآدم الأول، بكر البشرية جسديًا، وقد فقد باكوريته ليظهر هابيل الحقيقي، السيد المسيح، آدم الثاني بكرًا حقًا للبشرية، فيه يتقبلنا الآب رائحة سرور ورضي. فمن كلمات القديس أغسطينوس: [من هذه الأبوين الأولين للجنس البشري، كان قايين بكرًا منتسبًا لمدينة الناس، ووُلده بعده، هابيل منتسبًا لمدينة الله فصار هو بالحقيقة البكر أيضًا. وكما في حالة الفرد (هكذا يكون علي مستوي الجنس البشري) قيل بعبارة رسولية مميزة للحق: "لكن ليس الروحاني أولاً بل الحيواني وبعد ذلك الروحاني" (1 كو 15: 46)، هكذا يحدث أن كل إنسان يُنزع عن اصله المُدان يولد أولاً من آدم الجسداني الشرير وبعد ذلك يصير صالحًا وروحانيًا عندما يُطعم في المسيح بالتجديد (بالمعمودية)، هكذا بالنسبة للجنس البشري ككل... إذ نجد سكان هذا العالم يولدون أولاً وبعد ذلك الغرباء عنه أي سكان مدينة الله الذين بالنعمة تعينوا، وبالنعمة اُختيروا، وبالنعمة عاشوا غرباء هنا أسفل، وبالنعمة عاشوا كمواطنين في الأعالي... الله كفخاري صنع من الطينة عينها إناءً للكرامة وآخر للهوان (رو 9: 21)، لكنه صنع إناء الهوان أولاً وبعد ذلك إناء الكرامة[132]]. لأننا كما أخذنا صورة الترابي أولاً بعدها حملنا أيضًا صورة السماوي إي المسيح فصرنا فيه خليقة جديدة مستحقين أن نكون إناء للكرامة. [والعجيب أن قصة باكورية الجسد وباكورية الروح امتدت عبر الدهور، فنجد الله يختار إبراهيم أبًا لجميع الأمم ولم يكن بكرًا بين أخوته حسب الجسد، واختار إسحق الذي يصغر جسديًا عن إسماعيل، ويعقوب الذي يصغر عن أخيه عيسو. وجاء السيد المسيح من نسل فارص الذي ولدته ثامار وقد اقتحم فارص أخاه زارح وهو بعد في أحشاء أمه لينزع عنه البكورية (تك 38: 27-30)، وجاءت سلسلة نسب السيد المسيح تقدم مجموعة كبيرة من الآباء لم يكونوا أبكارًا حسب الجسد... هذا وقد سبق لنا الحديث عن مفهوم البكورية وارتباطها بشخص السيد المسيح البكر خلال دراستنا لسفر العدد[133]]. يري القديس أمبروسيوس في قايين رمزًا لجماعة اليهود الذين حملوا بكورية معرفة الله لكنهم جحدوا الإيمان بالمخلص وتلطخ مجمعهم بسفك دم برئ، ليأتي هابيل ممثلاً لكنيسة العهد الجديد تضم أعضاء من الأمم، فتحتل البكورية الروحية وتحسب كنيسة أبكار (عب 12: 23) خلال التصاقها أو اتحادها بالرب البكر. يقول القديس أمبروسيوس: [نري في قايين الشعب اليهودي الملطخ بدم ربهم وخالقهم وأخيهم أيضًا، وفي هابيل نفهم الإنسان المسيحي الملتصق بالله كقول داود: "أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي" (مز 72: 28)، أي ترتبط نفسه بالسمائيات وتتجنب الأرضيات. وفي موضع آخر يقول: "تاقت نفسي إلى خلاصك" (مز 119: 81)، مما يدل علي أن شريعة حياته كانت متجهة للتأمل في الكلمة (المسيح) وليس في ملذات العالم[134]]. عندما تحدث الكتاب عن الولادة الجسدية بدأ بقايين البكر جسديًا ثم هابيل، أما وقد تسلم كل منهما عمله المحبوب لديه احتل هابيل مركز الصدارة وكأنه يغتصب من قايين بكوريته، إذ قيل: "وكان هابيل راعيًا للغنم، وكان قايين عاملاً في الأرض" [2]. وكما يقول القديس أمبروسيوس إن الكتاب المقدس لم يذكر هابيل أولاً بلا هدف بالرغم من مولده بعد قايين وإنما: [ذكر الأصغر أولاً عندما أشار إلى العمل والكفاءة والموهبة لكي ندرك الفارق بين مهنتيهما. فبحسب خبرتنا تأتي فلاحة الأرض وحرثها أولاً لكنها أقل في المركز من رعاية الغنم[135]]. لعل العمل في الأرض يشير إلى الإنسان الجسداني الذي يركز عينيه وكل طاقاته نحو الأرض والزمنيات، أما رعي الغنم فيشير إلى الإنسان المهتم بالرعاية والتدبير وقيادة الجسد بكل طاقاته (الغنم). لهذا يليق بنا ألا نكون عاملين في الأرض لحساب الجسد وشهواته بل رعاة ندبر الجسد ونرعاه روحيًا لحساب ملكوت الله. يميز القديس ديديموس الضرير بين عمل هابيل وقايين، فيرى في هابيل كراع للغنم إنه مدبر لحواس جسده وضابط لها، أما قايين فكان عاملاً في الأرض وليس كنوح فلاحًا (تك 9: 20)؛ مميزًا بين العامل في الأرض والفلاح. فالفلاح هو الذي يدبر العمل الزراعي يعرف متي يحرث ومتي يبذر ومتي يحصد بحكمة وتدبير حسن، أما العامل في الأرض فيعمل بلا حكمة ولا تدبير (يقوم بعمل جسدي لا تدبيري). يقول القديس ديديموس: [لم يقل الكتاب عن قايين أنه فلاح بل عامل في الأرض. إذ لم يكن له دور قيادي كما كان لنوح الذي دُعي فلاحًا وليس عاملاً في الأرض (تك 9: 20)... كان هابيل راعيًا للغنم أي مدبرًا للحواس التي يقودها. هذا هو الراعي الممتاز الذي يُخضع لعصاه علمه ويضبط غضبه والشهوة، ويحمل فهمًا كقائد ومدبر. أما قايين فكان يدور في الأرض والأرضيات لا كفلاح بل كعامل في الأرض، كصديق للجسد يسلك بلا تعقل ولا تدبير... يمكن أن ينطبق عليه القول: "لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت" (إش 22: 13؛ 1 كو 15: 32)، أما الذي يعمل هذه الأمور بتدبير إلهي فيطبق المبدأ القائل: "فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئًا فافعلوا كل شيء لمجد الله" (1 كو 10: 31)[136]]. "وحدث بعد أيام أن قايين قدم من أثمار الأرض قربانًا للرب، وقدم هابيل أيضًا من أبكار غنمه من سمانها، فنظر الرب إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر، فاغتاظ قايين جدًا وسقط وجهه" [3– 5]. لماذا لم ينظر الله إلى قايين وقربانه؟ أولاً: يري القديسان ديديموس الضرير وأمبروسيوس أن تعبير: "وحدث بعد أيام" يشير إلى تراخي قايين في تقدمته أو ممارستها بدافع غير الحب. إذ يقول الأول: [قدم قايين تقدمته بإهمال، أما هابيل فقدمها بإخلاص[137]]، ويقول الثاني: [جاءت تقدمة قايين بعد أيام... وليست بسرعة واشتياق، لذا جاءت الوصية: "إذا نذرت نذرًا للرب إلهك فلا تؤخر وفاءه" (تث 23: 21)، "إذ نذرت نذرًا لله فلا تتأخر عن الوفاء به... أن لا تنذر خير من أن ينذر ولا تفي" (جا 5: 4، 5)[138]]. ثانيًا: لعل الله رفض تقدمة قايين لأنها كانت من ثمار الأرض، ولم يقل من "بكور الثمار"، فلم يقدم أفضل ما لديه، أما هابيل فقدم: "من أبكار غنمه من سمانها"... أعطي الله الأولوية! ثالثًا: كانت تقدمة قايين من ثمار الأرض غير القادرة علي المصالحة بين الله والإنسان، أما تقدمة هابيل فكانت ذبيحة دموية تحمل رمزًا لذبيحة السيد المسيح القادر وحده علي مصالحتنا مع الآب خلال بذل دمه عنا. رابعًا: يري القديس چيروم في حديث الرب مع قايين (الترجمة السبعينية): "إذ لم تقسم بالصواب" أن قايين قدم لله ثمار الأرض ولم يقدم قلبه، أي قدم تقدمة خارجية دون الداخل، فكان التقسيم غير مصيب. أما كيف عرف قايين أن الله قبل تقدمة هابيل دون تقدمته، فكما يقول القديس ديديموس الضرير: [ربما نزلت نار أكلت التقدمة، كما حدث مع هرون وبنيه، إذ "خرجت نار من عند الرب وأحرقت علي المذبح المحرقة والشحم، فرأي جميع الشعب وهتفوا وسقطوا علي وجوههم" (لا 10: 24)، وكما حدث مع إيليا النبي (1 مل 18: 38-40)[139]. أما أول ثمار رفض التقدمة فهو: "اغتاظ قايين جدًا وسقط وجهه" [5]، إذ تفسد الخطية سلام الإنسان وتحطمه ليعيش في غيظ وضيق، كما تنحدر بوجهه ليسقط إلى التراب عوض أن يرتفع نحو السماء، وكما يقول الحكيم: "حكمة الإنسان تنير وجهه" (جا 8: 1)، "القلب الفرحان يجعل الوجه طلقًا وبحزن القلب ينسحق الروح" (أم 15: 13). بالخطية يسقط وجه الإنسان مغمومًا، وبالمسيح يسوع يرتفع متهللاً ليقول: "نحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف" (2 كو 3: 18). الآن إذ سقط وجه قايين لم يتركه الله هكذا منهارًا بل تقدم إليه يسأله: "لماذا اغتظت؟ ولماذا سقط وجهك؟ إن أحسنت أفلا رفع؟! وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها وأنت تسود عليها" [7]. حقًا لم يقبل تقدمته لأنها من قلب غير نقي، لكنه لا يتركه في سقوطه بل يتقدم إليه بالحب يحدثه في صراحة ووضوح: "إن أحسنت أفلا رفع؟" ، وكأنه يعاتبه، قائلاً: "إن أحسنت ما بداخلك أفلا أرفع وجهك من جديد؟ لماذا تستسلم للغيط، ولماذا تترك وجهك ساقطًا؟!" وفي تحذير يقول له: "إن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة، وإليك اشتياقها، وأنت تسود عليها"، وكأنه يقول له" "إني أري خطية القتل رابضة عند الباب تود أن تتسلل إلى أعماقك مع أنك أنت تسود عليها، أي صاحب السيادة والإرادة، لك أن تقبلها ولك أن ترفضها. أنت لا تزال سيدًا عليها، لكنك إن قبلتها تسود عليك وتحدرك إلى عبوديتها. مادامت عند الباب رابضة فهي ضعيفة، لكن إن تسللت تضعف أنت أمامها وتنحني لها بروح العبودية. 2. قتل هابيل: "وكلم قايين هابيل أخاه، وحدث إذ كان في الحقل أن قايين قام علي هابيل أخيه وقتله، فقال الرب لقايين: أين هابيل أخيك؟ فقال: لا أعلم، أحارس أنا لأخي؟ فقال: ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض" [ 8-10]. ظن قايين أنه قتل واستراح، ولكن الله جاء ليسأله كي يثير فيه التوبة، فهو لا يريد أن يستر علي خطايانا بغلاف خارجي بينما يبقي الفساد يدب في الأعماق، إنما كطبيب روحي يريد أن يكشف الجراحات ويفضحها لأجل العلاج. هذا ومن جانب آخر أراد الله أن يؤكد لقايين أنه إله هابيل لا ينساه حتى وإن مدّ أخاه يديه عليه ليتخلص منه، وكما يقول القديس ديديموس الضرير علي لسان الرب: [لا تظن أن جريمتك هربت من عيني، ومن رعايتي التي لا تغفل[140]]. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تخلص منه إذ رآه محبوبًا، متوقعًا أن ينزعه عن الحب، لكن ما فعله جعله بالأكثر مثبتًا في الحب، إذ بحث الله عنه، قائلاً: أين هابيل أخوك؟[141]]. أخفي قايين جسد أخيه، لكنه لم يقدر أن يكتم صوت النفس الصارخة إلى الله، والتي عبّر عنها الرب بقوله: "صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض"، إذ يشير الدم إلى النفس بكونه علامة لحياة. فإن سُفك الدم تبقي النفس صارخة خلال الدم المسفوك ظلمًا علي الأرض. هذا الصوت الصارخ هو صوت كل إنسان يُظلم من أجل الحق فيُحسب شاهدًا للحق أو شهيدًا، تبقي صرخاته تدوي فوق حدود الأرض (المكان) والموت (الزمان). عن هذا الصوت يقول القديس أمبروسيوس: [للدم صوت عال يصل من الأرض إلى السماء[142]]. فالظلم أو الضيق لا يكتم النفس ولا يلجم لسانها بل بالعكس يجعلها بالأكثر متحدة مع كلمة الله الحيّ المصلوب، فيصير لها الصوت الذي لا يغلبه الموت ولا يحبسه القبر. وكأن سر قوة صوت الدم المسفوك ظلمًا هو اتحاد الإنسان بالمصلوب الحيّ. وقد رأي القديس أكليمنضس الإسكندري في دم هابيل رمزًا لدم المسيح الذي لا يتوقف صوته الكفاري وعمله، إذ يقول: [لم يكن ممكنًا للدم أن ينطق بصوت ما لم تراه خاص بالكلمة المتجسد، فالرجل البار القديم (هابيل) كان رمزًا للبار الجديد (السيد المسيح كلمة الله)؛ وما يشفع به الدم القديم إنما يتحقق خلال مركز الدم الجديد. الدم الذي هو الكلمة يصرخ إلى الله معلنًا أن الكلمة يتألم[143]]. إن كان قايين قد حطم جسد هابيل بجسده فصمت لسانه تمامًا، لكنه لم يكن ممكنًا أن يلجم لسانه قلبه وصرخاته الداخلية التي يستجيب لها الله سامع التنهدات الخفية. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان موسى متألمًا وصلي هكذا (بقلبه) وسُمع له، إذ يقول له الله: "لماذا تصرخ إليَّ؟" (خر 14: 15) ومع أنه لم يصرخ بفمه؛ وحنة أيضًا لم يكن صوتها مسموعًا، وحققت كل ما تريده، إذ كان قلبها يصرخ (1 صم 1: 13). وهابيل لم يصلِ فقط وهو صامت وإنما حتى عندما مات أرسل دمه صرخة كانت أكثر وضوحًا من صوت بوق[144]]. استهان قايين بحياة أخيه هابيل، وإذ به يستهين بالله نفسه في حديثه معه، فإن كل خطية تصوب نحو أخوتنا تدفعنا للخطأ في حق الله نفسه. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليته لا يحتقر أحدنا الآخر، فإن هذا عمل شرير يعلمنا الاستهانة بالله نفسه. فبالحقيقة إن أزدري أحد بالأخر إنما يزدري بالله الذي أمرنا أن نظهر كل اهتمام بالغير... لقد احتقر قايين أخاه، وفي الحال استهان بالله[145]]. إن كان عصيان آدم وحواء قد حمل تأديبًا ملموسًا يذّكر البشرية مرارة عدم الطاعة، فإن جريمة القتل الأولى قدمت لقايين تأديبًا ماديًا ملموسًا يكشف له عما حلّ به في أعماقه، إذ قيل له: "متى عملت الأرض لا تعطيك قوتها" [12]. بسبب جريمته حلّ بالأرض نوع من القفر لتكشف عن أرض الإنسان أي جسده الذي صار بالخطية قفرًا، لا يقدم ثمرًا روحيًا لائقًا. ويعلق القديس ديديموس الضرير على هذا التأديب الإلهي بقوله: [يحدث أحيانًا أنه بسبب خطايا الإنسان تصير الأرض قفرًا ولا تعطي ثمرًا، كالقول: "تنوح الأرض بسبب الساكنين فيها" (هو 4: 3). لقد وهبت الأرض لكي تثمر للذين يحتفظون بفهمهم بغير فساد... لكن الثمر يتناقص بأمر الرب (بسبب فساد الإنسان) حتى يتغير الناس عن حالهم[146]]. إن كانت الأرض تشير إلى الجسد الذي يفقد عمله الأصيل فيصير بلا ثمر روحي، فإن النفس أيضًا تفقد سلامها الداخلي، إذ قيل له: "تائهًا وهاربًا تكون في الأرض" [12]. وكأن النفس التي خضعت للجسد الترابي الأرضي تجده قفرًا، فتعيش فيه بلا راحة ولا سلام، إنما في حالة تيه وفزع. هذا ما أكده الكتاب المقدس بقوله: "خرج قايين من لدن الرب، وسكن في أرض نود شرقي الأردن" [16]. أي تخرج النفس من حضن ربها مصدر سلامها لتسكن في "نود" التي تعني "التيه" أو "الاضطراب". وكما يقول القديس ديديموس الضرير: ["نود" تعني "اضطراب". هناك كان يجب أن يسكن من ترك الفضيلة الهادئة ودخل إلى الاضطراب[147]]. ويقول القديس چيروم: [ترجمة "نود" هو "تيه"، فإذ اُستبعد قايين من حضرة الله سكن بالطبيعة في نود وصار تائهًا. هكذا اليهود إذ صلبوا الله ربهم تاهوا هنا وهناك وصاروا يلتمسون خبزهم. لقد تفرقوا في العالم ولم يبقوا في أرضهم. انهم يشحذون الغنى الروحي إذ ليس لهم أنبياء، وصاروا بلا ناموس ولا كهنة ولا ذبيحة، صاروا شحاذين بمعنى الكلمة[148]]. أما سر التيه فهو الخروج من لدن الرب [16]؛ ليس خروجًا مكانيًا إنما هو خروج عن الشركة معه والتمتع به. وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [لا نفهم أن قايين خرج بعيدًا عن الرب مكانيًا، إنما نقول أن كل خاطئ هو خارج الرب بنفس المعنى الذي يحمله التعبير "أدخل نحو الرب" عندما يقول المزمور: "ادخلوا إلى حضرته بترنم" (مز 100: 2). فعندما ندخل إلى حضرته نترك عنا كل ما هو خارجي أي الخطايا وكل الملموسات، حتى ننعم بأمور أخرى ليست من هذا العالم، لنشترك في معرفة الله... الله ليس بخاضع لمكان بالرغم من إقامة هيكل له... لقد خرج قايين لأنه حسب نفسه غير مستحق لمعاينة وجه الرب، بمعنى أنه لم يعد له فكر الرب[149]]. ويرى القديس باسيليوس الكبير أن أقسى عقوبة يسقط تحتها الإنسان حرمانه من حضرة الرب: [أقسى أنواع العقوبة التي تفرض على ذوي القلوب الصالحة هي التغرب عن الله[150]]. أدرك قايين خطورة ما بلغ إليه حاله، فاعترف للرب: "ذنبي أعظم من أن يحتمل. إنك قد طردتني اليوم من وجه الأرض من وجهك اختفي وأكون تائهًا وهاربًا في الأرض، فيكون كل من وجدني يقتلني. فقال له الرب: لذلك كل من قتل قايين فسبعة أضعاف يُنتقم منه، وجعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده" [13– 15]. واضح من اعتراف قايين أنه شعر بالندم ليس كراهية في الخطية وإنما خوفًا من العقاب الأرضي، ومع هذا فقد فتح الرب باب الرجاء إذ لم يعده بألا يُقتل وإنما من يقتله يعاقب بمرارة شديدة كمن يُنتقم منه سبعة أضعاف، مقدمًا له علامة حتى لا يقتله كل من وجده، هكذا يبدأ الرب مع قايين بالحب لعل قايين يرتمي من جديد في حضن الله بالتوبة الصادقة والرجوع إليه. يرى القديس باسيليوس الكبير[151] أن قايين أخطأ، واستحق أيضًا سبعة تأديبات، أم خطاياه السبع فهي: [ حسده لأخيه هابيل، كذبه على الله، خداعه لهابيل إذ استدرجه إلى الحقل، ما هو أبشع من قتل أخاه، قدم قدوة سيئة للبشرية في بدء تاريخها، أخطأ في حق والديه بقتل إبنهما]. أما التأديبات السبعة فهي: [بسببه لُعنت الأرض، صارت الأرض عدوة له يعيش عليها كمن مع عدوه، لا تعطيه الأرض قوتها، يعيش في تنهد، يصير في رعب، يُطرد تائهًا، يتغرب عن وجه الرب]. أما العلامة التي قدمها الله لقايين حتى لا يقتله كل من وجده فربما تشير إلى علامة الصليب التي فيها يختفي الخاطئ لجد أمانًا وسلامًا خلال مصالحته مع الله. هذه هي العلامة التي يوسم بها أولاد الله الذين لا يطيقون الرجاسات فتحفظهم من الهلاك المهلك كما رأى حزقيال النبي (حز 9: 6). ويرى القديس أغسطينوس أنها علامة العهد الذي وُهب لرجال العهد القديم كظل للصليب، معلنًا في ناموسهم وطقوسهم، إذ يقول: [هذه العلامة لليهود إذ أمسكوا بناموسهم واختتنوا وحفظوا السبوت وذبحوا الفصح وأكلوا خبزًا غير مختمر[152]]. 3. أولاد قايين: إن كان الله قد فتح باب الرجاء أمام قايين بالرغم من بشاعة ما ارتكبه من شر ضد الله والناس، عوض الرجوع إليه بالتوبة ليسترد سلامه أقام مدينة دعاها باسم ابنه "حنوك" [17]، حتى لا يعيش أولاده مثله تائهين. وكأنه يكرر ما فعله والداه من قبله إذ خاطا لنفسيهما مآزر من أوراق التين (تك 3: 7). تستر عريهما مع بقاء الفساد الداخلي بلا علاج. هذه هي أول مدينة بناها الإنسان لنفسه ليحتمي فيها من قرارات الله وتأديباته، بل بالحري يحتمي من التيه الذي جلبه لنفسه بنفسه لهذا يقول القديس چيروم: [المدينة العظيمة التي بناها قايين أولاً ودعاها باسم أبنه تؤخذ رمزًا لهذا العالم الذي بناه الشيطان بالرذيلة ودعمه بالجريمة وملأه بالشر[153]]. ويقول القديس أغسطينوس: [لقد سُجل أن قايين بنى مدينة، أما هابيل فكعابر لم يبن شيئا، لأن مدينة القديسين فوق، وإن كانت تنجب لها مواطنين هنا أسفل لكي يرحلوا في الوقت المناسب ويملكوا، عندما يجتمعون في يوم القيامة ويُعطى لهم الملكوت الموعود به، الذي فيه يملكون مع رئيسهم وملك كل الدهور، آمين[154]]. إن كان قايين قد أنجب "حنوك" مقدمًا له مدينة ترابية تحميه من التيه، عوض البركة الروحية، فإن الكتاب يسجل لنا سلسلة مواليد قايين حتى يصل إلى لامك ليقدمه لنا كزوج لامرأتين هما عادة وصلة. أنجب من الأولى يابال ويوبال، ومن الثانية توبال وأخته نعمة. ويرى القديس چيروم أن لامك لم تكن له حواء واحدة بل أول من تزوج بامرأتين إشارة إلى عمل الهراطقة الذين يقسمون الكنيسة إلى كنائس منحرفة عن الإيمان[155] على أي الأحوال إن كان قايين قد قدم أبشع مثل للجريمة في بدء تاريخ البشرية بقتله أخيه ظلمًا، فإن ثمرة الشر هي الهرطقة التي تفسد كنيسة الله وتحرف الإيمان، بل وتدفع إلى الإحاد، وكما يقول القديس أغسطينوس: [وراء كل إلحاد شهوة]. يرى البعض[156] في حياة لامك مع هاتين المرأتين أنها تمثل الحياة الوثنية أو البعد عن الله، فإن كانت "عادة" في العبرية تعني "جمال" أو "زينة"، و"صلة" تعني "ظل"، فإن الأولى تشير إلى شهوة العين، والثانية تشير إلى "شهوة الجسد". الأولى بجمالها أو زينتها تغوي العين عن التطلع إلى السمويات، والثانية كظل تسحب النفس للعبودية لشهوات الجسد الذي لا يمثل إلاّ ظلاً يختفي، أي تسحبها للأمور الجسدانية الزمنية المؤقتة. في اللغة الأشورية "عادة" مأخوذة من "عدهاتو" وتعني "ظلام"، وأما "صلة" فمشتقة من "ظلاتو" وتعني "ظلال الليل"، وكأن لامك اختار في شره أن يتحد مع الظلام وظلال الليل خلال حياته الشريرة. قبل أن نتحدث عن المثل الذي نطق به لامك لامرأتيه نذكر معاني الأسماء الواردة في هذا الأصحاح: أ. عيراد بن حنوك؛ كلمة "عيراد" مشتقة من الكلمة العبرية "عير" وتعني "مدينة"، ربما لأن قايين كان يبني المدينة الأولى في العالم التي دعاها باسم أبنه حنوك. ويرى البعض أن كلمة "عير" في العبرية تعني "جحش" أو "حذر". ب. محويائيل بن عيراد، أسمه يعني "مضروب من الله". ج. متوشائيل بن محويائيل، إسمه عينه "بطل الله" أو "رجل الله". د. لامك، يعني "قوي". قدم لامك لامرأتيه أول قطعة شعرية في الأدب العبري، تسمى "أغنية السيف للامك"، جاء فيها "أسمعا لقولي يا امرأتي لامك، وأصغيا لكلامي، فإني قتلت رجلاً لجرحي وفتى لشدخي. إنه ينتقم لقايين سبعة أضعاف وأمّا للامك فسبعة وسبعين" [23، 24]. خلال هذه الأغنية نشتم روح الافتخار والاعتداد بالذات بالدفاع عن النفس والثقة في قوة الإنسان وعنفه، إذ يرى البعض أن لامك يعلن لامرأتيه أنه يستخدم السيف الذي اخترعه ابنه توبال والذي قيل عنه "الضارب كل آلة من نحاس وحديد" [22]، يستخدمه في دفاعه عن نفسه؛ لهذا فيحسب نفسه بريئا إن قتل إنسانًا مادام ليس بقصد القتل وإنما دفاعًا عن نفسه. إن كان قايين كقاتل أخيه ينتقم له سبعة إضعاف فإن لامك كمدافع عن نفسه ينتقم له سبعة وسبعين. توجد تفاسير كثيرة لهذه الأغنية فالبعض يرى أن لامك شاخ جدًا وصار ضعيف البصر وإذ كان حفيده يقوده وكان محبًا للصيد أشار له حفيده عن صيد فضرب بالسهم فإذا به يقتل جده قايين عن غير قصد، وإذ صرخ الحفيد معلنًا قتل قايين ضرب لامك الفتى فقتله، لذلك قال "قتلت رجلاً (قايين) لجرحي، وفتى لشدخي". وأدرك إنه كقاتل لابد أن يُقتل، لكنه إذ قتل بغير عمد ينتقم له الرب سبعة وسبعين. يرى البعض أن رقم 77 يذكرنا بنسب السيد المسيح كما ورد في إنجيل لوقا (3: 23– 38) فإنه ينتقم للخطية أو يُقتص العدل بمجيء المخلص الذي يدفع الثمن كاملاً على الصليب. 4. ميلاد شيث: عندما اقتنت حواء "قايين" ظنت فيه بركة للأجيال كلها، لكن سرعان ما فسدت حياته وقتل أخاه البار... فلم يترك الله حواء منكسرة الخاطر، بل وهبها بداية جديدة بإنجاب "شيث" عوض "هابيل". معنى "شيث" في العبرية "عوض" أو "معيّن" وكأن الله جبله عوض هابيل وعينه رأسًا لجيل مقدس. وبالفعل انجب شيث "أنوش" الذي يعني "إنسانًا"، "وحينئذ أبتدئ أن يُدعى باسم الرب" [26]. الأصحاح الخامس الموت بالخطية دخل الموت الروحي كما الجسدي إلى حياة الإنسان، فمهما طال عمر الإنسان على الأرض لا يستطيع الهروب من الموت... لأنه "بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع" (رو 5: 12). لكن وسط هذه الصورة القاتمة وُجد أخنوخ الذي انتقل إلى الله بكونه بارًا. 1. مواليد آدم (وموتهم) 1 – 20. 2. أخنوخ البار 21 – 24. 3. متوشالح 25 – 27. 4. نوح 28 – 32. 1. مواليد آدم (وموتهم): قبل أن يبدأ الحديث عن تجديد العالم خلال الطوفان والفلك قدم لنا الوحي الإلهي سلسلة مواليد آدم، مبتدأ بآدم لينتهي بنوح حيث يبدأ العالم من جديد خلال معمودية الطوفان. قدم إدرشيم Edershein الجدول التالي من آدم حتى تجديد العالم (نوح)[157]: سنة موته بالنسبة لتاريخ العالم سنة ميلاده بالنسبة لتاريخ العالم عمره عند موته عمره عند ولادة الابن الاسم 930 1 930 130 آدم 1042 130 912 105 شيث 1140 235 905 90 أنوش 1235 325 910 70 قينان 1290 395 895 65 مهللئيل 1422 460 962 162 يارد 987 622 365 65 أخنوخ 1656 687 969 187 متوشالح 1651 784 777 182 لامك 2006 1056 950 500 نوح ويلاحظ في هذه السلسلة من الأنساب: أ. لم يذكر هابيل الذي استشهد قبل أن يكون له نسل، فإن كان ذكره على الأرض قد انتهي بعدم الإنجاب، لكن صوته لم يتوقف بعد كقول الرسول: "وإن مات يتكلم بعد" (عب 11: 4). كما تجاهل ذكر قايين وذريته الذي حكم على نفسه بنفسه بالموت وهو حيّ. ب. مع أن الإنسان بشر فقد شبهه لله، مع ذلك ففي بداية سلسلة الآباء يقول: "يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله" [1]. فإن كان الإنسان قد تدنس بالإثم، لكن الله يترجى أن يرده مرة أخرى إلى صورته الأصلية التي خلقه عليها... ولعل غاية هذه السلسلة أن تقدم لنا في النهاية شخص المخلص الذي يقوم بهذا العمل فينعم المؤمنون بهذه العطية، أي حملهم شبه الله فيهم. ج. إذ يذكر ميلاد شيث يقول "وولد (آدم) ولدًا على شبهه كصورته ودعا اسمه شيثًا" [3]، أي "إنسانًا". ولعله يقصد بحمله شبه صورة أبيه وصورته، إنه حمل نفس الرجاء الذي لأبيه آدم في التمتع بالخلاص الموعود به، وليس كقايين الذي عاش بلا رجاء تائهًا في الأرض. د. يلاحظ أيضًا في سلسلة الآباء جاء أخنوخ من نسل شيث الذي "سار مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه" [24]، ولعله يقابل "حنوك (أخنوخ)" الله من نسل قايين، على أسمه بُنيت أول مدينة على الأرض... وكأن الله أقام نسلاً يحمل السمة السماوية عوض النسل المرتبط بالأرضيات. وبنفس الفكر نجد لامك هنا السابع من نسل شيث يلد نوحًا علامة النياح الروحي والراحة في الرب، عوض لامك السابع من نسل قايين الذي تزوج بامرأتين هما الظلمة وظل الليل كما رأينا وقد أتسم بالعنف... بمعنى آخر إن كان عدو الخير يبذل كل طاقاته لإفساد البشرية لحساب مملكته، فإن الله يقيم له شهودًا في كل جيل أحباء له ينعمون بشركة أمجاده. هـ. من جهة أعمار هؤلاء الآباء: حاول كثير من الدارسين تقديم تفاسير مختلفة فمنهم من قال أن الأرقام في العبرية قديمًا كانت غامضة ويصعب ترجمتها، وآخرون قالوا أن الأعمار المذكورة لا يقصد بها الآباء وإنما تعني عمر عشائرهم... على أي الأحوال الكتاب المقدس ليس بالكتاب التاريخي ولا يهدف بكلماته الإلهية تسجيل تاريخ الإنسان بمفهومنا الحرفي، وإن كنا لا ننكر دقته وإمكانية الحياة الطويلة في بداية الخليقة. و. لعل غاية هذه السلسلة تأكيد أن الإنسان وإن طال عمره لكنه يموت، مسلمًا ابنه الوعد بالخلاص ليترقب الحياة الجديدة التي لا يغلبها الموت. 2. أخنوخ البار: بين هذه السلسلة من الأنساب وُجد إنسان واحد لم تختم حياته بعبارة "ومات"، إنما قيل عنه "ولم يوجد لأن الله أخذه" [24]، هذا الذي "قبل نقله شُهد له بأنه أرضي الله" (عب 11: 5). فإن كانت الأنساب الأخرى تمثل البشرية المؤمنة التي تمتعت بالرجاء في مجيء المخلص الموعود به لينقلها من الموت إلى الحياة، فإن "أخنوخ" يمثل أعضاء الكنيسة التي لا تعاين الموت عند مجيء ربنا يسوع بل ترتفع معه على السحاب لتنعم مع بقية الأعضاء بالحياة الأبدية المجيدة (1 تس 4: 14– 17). لعل ما ورد عن أخنوخ هنا وسط سلسلة الآباء، تأكيد أن سرّ سعادة الإنسان ليس طول بقائه على الأرض وإنما انتقاله إلى حضرة الرب ليعيش معه وجها لوجه. وكأن "أخنوخ" يمثل استرداد الإنسان لحالته الأولى الفردوسية، بانطلاقه من الأرض التي فسدت إلى مقدس الله. وكما يقول يهوذا الرسول: "وتنبأ عن هؤلاء أيضًا أخنوخ السابع من آدم قائلاً: "هوذا قد جاء الرب في ربوات قديسيه، ليضع دينونة على الجميع ويعاقب جميع فجورهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها على جميع الكلمات الصعبة التي تكلم بها عليه خطاة فجار" (يه 14: 15). انتقال أخنوخ إلى الله هي نبوة عملية عن الحياة الأبدية وشهادة ضد الأشرار ودينونتهم العتيدة، بجانب نبوته النطقية التي تسلمتها الكنيسة اليهودية خلال التقليد الشفوي وسجلها الرسول يهوذا. أخنوخ يمثل القلب الذي يتحد مع الذي ويصير موضع سروره ورضاه في المسيح يسوع الابن المحبوب، فلا يمكن للموت (الروحي) أن يجد له فيه موضعًا، بل يكون في حالة انطلاق مستمر نحو الأبدية، لا يقدر العدو أن يمسك به أو يقتنصه. لم نعرف عن حياة أخنوخ شيئًا سوي هذه العبارة "وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه" [24]، إذ لم يذكر لنا الكتاب شيئًا عن تصرفاته أو مثلاً لمعاملاته، لكنه بحياته الخفية سحب قلوب الكثيرين عبر الأجيال نحو التوبة والحياة مع الله. يقول أبن سيراخ: "نُقل أخنوخ كمثال للتوبة لجميع الأجيال" (44: 16). ورأى فيه القديس أمبروسيوس صورة للحياة الرسولية التي لا يهزمها الموت إذ يقول: [حقًا لم يعرف الرسل الموت كما قيل لهم: "الحق الحق أقول لكم إن كثيرين من القيام ههنا لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان قادمًا في ملكوته" (راجع مت 16: 28). فمن ليس بداخله شيء يموت (يحيا أبديًا)، هذا الذي ليس فيه من مصر (رمزيًا) أي نعل أو رباط، إنما خلع عنه هذا كله قبل تركه خدمة الجسد. ليس أخنوخ وحده هو الحيّ ولا وحده أُخذ إلى فوق، إنما بولس أيضًا ارتفع ليلتقي بالمسيح[158]]. بنفس الفكر يرى القديس كبريانوس مثلاً حيًا للمنتقلين إلى الرب سريعًا إذ تركوا عنهم محبة الزمنيات: [إنك تكون (كأخنوخ) قد أرضيت الله إن تأهلت للانتقال من عدوى العالم. لقد علّم الروح القدس سليمان أن الذين يرضون الله يؤخذون مبكرين ويتحررون سريعًا لئلا بتأخيرهم في هذه العالم يتدنسون بوبائه. وكما قيل: "خطفه لئلا يغير الشر عقله، إنه كان مرضيًا لله فأحبه وكان يعيش بين الخطاة فنقله" (حك 4: 10، 11). وفي المزامير تسرع النفس المكرمة لإلهها نحوه قائلة: "ما أحلى مساكنك يارب الجنود، تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب" (مز 84: 1)[159]]. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن "أخنوخ" فاق هابيل في إيمانه، إذ يقول: [فاق هذا الرجل هابيل في إيمانه. ربما تسأل كيف؟ لأنه بالرغم من مجيئه بعده فإن ما أصاب هابيل كان كافيًا بصده عن سعيه... ومع هذا لم يدخل أخنوخ إلى اللامبالاة، ولا قال في نفسه: ما الحاجة إذن إلى التعب؟![160]]. كان أخنوخ عظيمًا في إيمانه، فمع عدم رؤيته أمثلة حية يحتذي بها، ومع سماعه ما حدث مع هابيل عاش مع الله يسلك بالبر فاستحق أن يأخذه الله. 3. متوشالح: "متوشالح" اسم سامي معناه "رجل السلاح"، ابن أخنوخ، مات في سنة الطوفان وكان عمره 969 عامًا، أطول عمر ذكر في الكتاب المقدس... لكنه وإن طال عمره فقد انتهى بالموت. وكما يقول القديس چيروم: [حتى إن عشنا تسعمائة سنة أو أكثر كما كان الناس قبل الطوفان، ولو وُهب لنا أيام متوشالح لكن هذه الفسحة من الزمن الطويل عندما تعبر وتنتهي تُحسب كلا شيء. فإن عاش الإنسان عشرة سنوات أو ألفًا من السنين، عندما تنتهي الحياة ويتحقق الموت المحتوم يُحسب الماضي – طال أو قصر – واحدًا، غير أن الذي عاش مدة أطول يُثقل بخطايا أكثر يحملها معه[161]]. 4. نوح: خلال نسب الآباء أعلن الوحي ميلاد "نوح" بكونه علامة "النياح" أو "الراحة" التي يتمتع بها العالم بتجديده بمياه الطوفان... الأمر الذي يعرضه الكتاب في الأصحاحات التالية بشيء من التفصيل. وقد جاء نسل نوح: "سام وحام ويافث" [32] كرؤوس لكل شعوب الأمم بعد الطوفان.
سفر التكوين
سفر التكوين
العهد القديم
الكتاب المقدس
العهد الجديد
الكتاب المقدس
الاسفار القانونية الثانية
الكتاب المقدس
خدمات الموجة القبطية
خدمات الموجة القبطية