Coptic Wave Org موقع الموجة القبطية

رسالة يعقوب - الأصحاح الثانى

رسالة يعقوب - الأصحاح الثانى

صورة فى موقع الموجة القبطية - الكتاب المقدس - العهد الجديد - رسالة يعقوب - الأصحاح الثانى

رسالة يعقوب - الأصحاح الثانى

الإيمان والتجارب يتحدث الرسول في هذا الأصحاح عن الإيمان والتجارب: 1. المقدمة (تحية) 1. 2. التجارب الخارجية 2- 4. كيف نحتمل التجربة؟ أولاً: باقتناء الحكمة السماوية 5- 7. ثانيًا: باقتناء التواضع 8. ثالثًا: إدراك زوال العالم 8- 12. 3. التجارب الداخلية 13 – 15. 4. الله أبونا، لا يهب إلاَّ الصلاح 16 – 17. 5. موقفنا كأولاد لله: أولاً: الإسراع في الاستماع 18. ثانيًا: الإبطاء في التكلم 19. ثالثًا: الإبطاء في الغضب 19- 20. رابعًا: نزع بذور الشر وغرس الكلمة 21 – 25. خامسًا: تلجيم اللسان 26. سادسًا: الرحمة بالآخرين 26. سابعًا: حفظ الإنسان من دنس العالم 27. 1. المقدمة (التحية) "يعقوب عبد الله والرب يسوع المسيح، يهدي السلام إلى الإثنى عشر سبطا الذين في الشتات" [1] لم يذكر الرسول نَسَبُه حسب الجسد للرب يسوع بل يدعو نفسه "عبدًا". والعبد كما نعرف لم يكن له حق أو سلطان حتى على جسده أو إرادته أو زوجته أو أولاده... بل للسيد أن يتصرف كيفما يشاء. هكذا يحب يعقوب الرب إلى درجة العبوديّة، يفرح جدًا أن يترك للمحبوب أن يفعل به ما يريد. هذه عبوديّة، لكنها لا عن قسر وإكراه بل في حب ورضا. هذه أحاسيس الذين عشقوا الثالوث القدوس، فإذ يرون الآب يفتح لهم أحضانه كبنين، والابن يقبلهم كعروس، والروح القدس هيكلاً له، يرتمون في حضن الثالوث القدوس في تسليم كامل كعبيد، فيقول كل واحد منهم مع الرسول أنه "عبد الله والرب يسوع المسيح". هذا القول يكشف عن عظمة حب الرسول واعتزازه بالتعبد لله في تواضع حقيقي[16]. 2. التجارب الخارجية "احسبوه كل فرح يا إخوتي، حينما تقعون في تجارب متنوعة" ]2[. لم يقل الرسول "يا أولادي" مثل يوحنا الحبيب بل "يا إخوتي". والسبب في هذا أنه يتحدث عن التجارب والآلام، فيريد أن يبث فيهم روح الشجاعة كإخوة، وأنهم ليسوا أطفالاً وأبناء. وقوله "يا إخوتي" يُذكِّرهم برباطهم معًا في أخوة روحيّة خلال الميلاد الجديد كأبناء لله، مما يجعلهم يتقبلون الآلام بغير تذمر، وفي تسليم وفي فرح، بل في "كل فرح". وربما قصد بكلمة "كل" هنا أنها النهاية القصوى للفرح، أو عدم تقبُّل شيء غير الفرح، أو كل صنوف الفرح، إذ تحل بهم صنوف متنوعة من التجارب. وكأنه يقول لهم: حينما تحل بكم لا تجربة ولا إاثنتين بل تجارب متنوعة، يليق بكم لا أن تفرحوا بل تفرحوا كل الفرح. وكلمة "تقعون" في اليونانيّة لا تعني السقوط أو الدخول في تجارب، إنما تعني حلول التجارب واحاطتها بالإنسان من الخارج، كما تحمل معنى المفاجأة في الحلول وعدم توقعها. بهذا فإن الرسول لا يتكلم عن التجارب التي تنبع من داخل النفس، بل التي تحل بنا من الخارج. فخلال هذا النسب الجديد نتقبل هذه التجارب المتنوعة بكل فرح[17] قائلين: "كحزانى ونحن دائمًا فرحون" (2 كو 6: 9). لأن هذه الآلام ليست بسبب الخطيّة، بل هي سمة الرب المتألم "مكملين نقائص شدائد المسيح في أجسادنا" (كو 1: 24). وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: ["لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضًا" (2 كو 1: 5)... إنه يسمو بنفوسنا حاسبًا هذه الآلام خاصة به، فأي فرح يشملنا أن نكون شركاء المسيح، من أجله نتألم! بالإيمان ندرك الميلاد الجديد والقيامة. فالذين يؤمنون بيسوع المُقام حقًا، يلزمهم أن يقدموا أنفسهم للآلام. والذين لهم شركة في آلامه، يقومون معه أيضًا. "لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهًا بموته لعلي أبلغ إلى قيامة الأموات" (في 3: 10)[18].] ويكتب البابا أثناسيوس الرسولي إلى شعبه الذي تحل به التجارب على أيدي الأريوسيين قائلاً: [لنفرح عالمين أن خلاصنا يحدث في وقت الألم. لأن مخلصنا لم يخلصنا بغير ألم، بل تألم من أجلنا مبطلاً الموت، لهذا أخبرنا قائلاً: "في العالم سيكون لكم ضيق" (يو 16: 33). وهو لم يقل هذا لكل إنسان بل للذين يخدمونه خدمة صالحة بجهادٍ وإيمانٍ، أي أن الذين يعيشون بالتقوى من جهته يُضطهدون[19].] "عالمين أن امتحان إيمانكم ينشىء صبرًا" ]3[. سر الفرح أن التجارب مهما اشتدت هي بالنسبة للمؤمن الحقيقي امتحان. هذا الامتحان يُعين الإنسان أن يكون له صبر، إذ يتشبه بالرب يسوع. ويلاحظ أن الصبر هنا لا يحمل المعنى السلبي الذي فيه يستسلم الإنسان بخنوعٍ أو يخضع للألم بشجاعة بشريّة وكبت على حساب أعصابه، فإن هذا حتمًا يدفع إلى الانفجار. وإنما الصبر هنا يعني الجانب الإيجابي، وهو الصبر المملوء حبًا،حيث يرمي الإنسان بآلامه على الرب المتألم بفرح في حب ورضا، بل يسعى هو بنفسه للألم لأن خلاله يتمثَّل بالرب المتألم. "وأما الصبر فله عمل تام". التجربة في ذاتها مرّة، لكن الصبر الذي تنشئه له غاية كاملة وهي: "لكي تكونوا تامين وكاملين غير ناقصين في شيء" ]4[. 1. نكون تامين أي ناضجين روحيًا، فكما أنه لا يكفي لزراعة شجرة أن نلقي البذرة ونرويها ونعتني بها، لكن مع اهتمامنا بها يلزم أن نصونها من الرياح في بدايتها، ثم نعرضها لها قليلاً قليلاً حتى تنضج، هكذا لا يكفي أننا نؤمن بالمصلوب، وإنما يلزمنا بعد ولادتنا بالمعموديّة أن نشترك مع الرب في آلامه حتى ينمو فينا الإنسان الجديد، وينضج يومًا فيومًا في رجولة روحيّة. ويُشبِّهنا القديس يوحنا ذهبي الفم بالطفل الذي يتعلم المشي. فإن المُربية تمد يديها وتمسك بيديه، وتسير به قليلاً قليلاً، وفي خلال سيره تترك يديه إلى حين. قد يبكي، وقد يسقط، لكن قلبها وعينيها وكل أحاسيسها معه! هكذا يمسك الله بيدينا ويترفق بنا، لكن لابد أن يسحب يده قليلاً دون أن يتخلى عنا. يسمح لنا بالتجارب لكي نتدرب في طريق النضوج الروحي. لذلك كتب العلامة ترتليان إلى المتألمين المسجونين بسبب الإيمان يقول لهم: ]أيها الطوباويون، احسبوا كل ما يصيبكم تداريب للتقوية، حتى تنالوا إكليلاً أبديًا ملائكيًا، فتصيروا سكانًا للسماء، ممجدين إلى الأبد... إن سيدكم يسوع المسيح الذي مسحكم بروحه وقادكم إلى حلبة المصارعة (للتدريب) يرى أن هذا مفيد لكم... فيُلزمكم بتداريب قاسية لتنمو روحيًا... فالفضيلة تُبنَي فينا بالجهاد وتزول وتتحطم بالانزلاق في الشهوات[20].] 2. كاملين وغير ناقصين في شيء... أي ليس فقط تامين، ولكن هذا النضوج يشمل كل جوانب الحياة الروحيّة. حقًا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا (يع 3: 2)، لكننا كأولاد لله قدر ما نخضع لمدربنا الرب يسوع، مجاهدين نسمع كلمات الرسول: "بعدما تألمتم يسيرًا هو يكملكم ويثبتكم ويقويكم ويُمَكِّنكم" (1 بط 5: 10). كيف نحتمل التجربة؟ أولاً: باقتناء الحكمة السماوية "إن كان أحد تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعير، فسيُعطَى له" [5]. بالحكمة السماوية يقف الإنسان على إرادة الله ويدرك مواعيده للصابرين إلى المنتهى، فيفرح بالتجارب كمن وجد غنيمة. لهذا لا نكف عن طلبها قائلين: "هب لي الحكمة الجالسة إلى عرشك ولا ترذلني من بين بنيك. فإني أنا عبدك وابن أمتك، إنسان ضعيف، قليل البقاء وناقص الفهم" (حك 9: 56). وإنه "يعطي الجميع" أي يهب كل من يطلب، لأنه لا يحابي أحدًا، وهو يعطي بسخاء، أي بفيض، مجانًا بلا قيد ولا شرط. يقدّم ولا يعيّر، لأنه أب، والأب يفرح بعطائه لابنه كل شيء. لكن لماذا لا ننال أحيانًا؟ ليس السبب في الله، بل فينا نحن الذين توقّف فيض عطاياه علينا بسبب عدم إيماننا، لذلك يقول الرسول: "ولكن ليطلب بإيمان". وكما يقول الأب إسحق: [هكذا تستجاب صلاة الإنسان عندما يؤمن أن الله مهتم به وقادر أن يعطيه سؤاله، إذ لا يخيب قول الرب: "كل ما تطلبونه حينما تصلون فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم" (مر 11: 24)[21].] ليطلب الحكمة "غير مرتاب البتة"، أي من غير أن ينقسم قلبه بين التجائه إلى الله واهب الحكمة واعتماده على حكمته الذاتيّة، أو بين محبة الله ومحبة الأمور الزمنيّة. "لأن المرتاب يشبه موجًا من البحر تخبطه الريح وتدفعه" [6] فيكون كالموجة التي تدفعها الريح على الصخر فتصير رذاذًا. "فلا يظن ذلك الإنسان أنه ينال شيئًا من عند الرب. رجل ذو رأيين متقلقل في جميع طرقه" [7- 8]. وكما يقول القديس يوحنا كاسيان: [قد تأكد تمامًا أن صلاته لن تُستجاب! من هو هذا البائس؟ الذي يصلي ولا يؤمن أنه سيحصل على جواب[22]!] ثانيًا: باقتناء التواضع تنزع الحكمة السماوية عن الإنسان ذاتيته، فيختبر التواضع الحقيقي. إذ ينحني منسحقًا يلتصق بصليب الرب، فيرتفع مبتهجًا غالبًا بقوة القيامة. لذلك يقول الرسول: "وليفتخر الأخ المتضع بارتفاعه" [9]. "وأما الغني فابتضاعه". يوجه حديثه هنا للغني، دون أن يقول "الأخ" حتى لا يظنوا أنه يداهنهم بسبب غناهم. إنه يجدر به ألاَّ يفتخر بغناه بل بتواضعه. بهذا يقدر أن يحتمل التجربة! ثالثًا: إدراك زوال العالم إذ يدرك المؤمن حقيقة غربته على الأرض يرتفع نظره إلى حياة أفضل، محتملاً كل ألمٍ وتجربةٍ بغير تذمر، إذ كل ما في هذا العالم يزول. "لأنه كزهر العشب يزول. لأن الشمس أشرقت بالحر، فيبَّسَتْ العشب، فسقط زهره، وفني جمال منظره. هكذا يذبل الغني في طرقه" [10- 11]. تأثر الرسول بالمنظر الساحر الذي في تلك البقاع حيث تغطي أزهار شقائق النعمان منحدرات التلال في الصباح، لكن ما أن تظهر الشمس وتهب الرياح الحارة حتى تجف وتُجمع للوقود. وقد استخدم إشعياء نفس التشبيه (40: 67)، وكذلك أيوب (14: 2). إن الشمس التي تهب حياة للزرع تُفني جمال زهر العشب، هكذا شمس التجارب التي تُزيد المؤمن بريقًا، تُهلك المتكلين على غناهم فيذبلون في طرقهم. إذًا ليرفع الأغنياء أنظارهم إلى السماويات، بدلاً من أن ينشغلوا بجمال زهر عشب الغِنَى الذي سرعان ما يذبل، وبهذا تتحول تجاربهم إلى موضوع كل فرح. "طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة، لأنه إذا تزكى ينال إكليل الحياة الذي وعد به الرب للذين يحبونه" [12]. وإذ يرتفع نظرنا إلى السماويات، تاركين الغِنَى الزمني، نشتهي الدخول في مدرسة التجارب العمليّة. وإذ نتخرج فيها نعلن حبنا لله فننال "إكليل الحياة" الذي هو نصيب المحبين. إنها تُخرِّج رجالاً في الروحانيّة، لذا يقول الرسول "طوبى للرجل..." لذلك تاق الآباء إليها: فيقول الأب تادرس: [يا لنفع التجارب والآلام التي يحسبها البعض شريرة، فلا يحاول القديسون تجنُّبها بل بالحق يطلبونها بكل قوتهم، محتملين إياها بشجاعة، وبهذا يصيرون أحباء لله، ويحصلون على إكليل الحياة الأبديّة... ويتغني الرسول الطوباوي قائلاً: "أُسر بالضعفات والشتائم والضرورات والضيقات لأجل المسيح. لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي" (2 كو 12: 10)[23].] ويقول القديس أغسطينوس [إن كنتَ ذهبًا، فلماذا تخاف النار، فإنه في الكور يحترق الزغل وتخرج أنت نقيًا؟ وإن كنت حنطة، فلماذا تهاب الدراس، مع أنك لا تظهر على ما أنت عليه إلاَّ به حيث يُنتزع عنك "التبن" ويظهر أصلك وشرفك؟] 3. التجارب الداخلية "لا يقل أحد إذا جُرِّب إني أُجرب من قِبل الله، لأن الله غير مُجرِّب بالشرور، وهو لا يُجرِّب أحدًا" [13]. بحثت الفلسفات كثيرًا عن مصدر الشر، فنادى البعض بوجود إلهَيْن، أحدهما علة الخير والآخر علة الشر[24]... وآخرون نادوا أن الله علة الخير والشر. والشر هنا لا يعني ما قد يحل بنا من تجارب أو كوارث أو ضيقات، بل الخطيّة والظلمة. الأمر الذي لا يتفق مع طبيعة الله كلّي الصلاح الذي فيه كمال مطلق. وهنا يقطع الرسول بأن الله غير مُجرِّب بالشرور وبالتالي لا يُجَرِّب أحدًا. حقًا قيل عن الله إنه يجلب شرًا[25]، وهذا كقول القديس أغسطينوس من قبيل حب الله أن يحدثنا بلغتنا قدر فهمنا، فهو يجلب التأديب الذي نسميه شرًا لخيرنا. أما الشر أي الخطيّة، فلا يحرضنا الله عليها، بل ولم يخلق فينا عواطف أو دوافع أو طبيعة شريرة، بل كل ما خلقه فينا هو حسن جدًا. ونحن بإرادتنا في شخص آدم انحرفنا عما هو حسن لنشبعه بما هو ليس حسن. فالحواس والعواطف والدوافع كلها بلا استثناء يمكن أن تًوجه كطاقات للخير متى سلمت في يد الله، وكطاقات للشر متى نُزِعَت عنا نعمته[26]... إذن الله لا يجربنا بالشرور، إنما يسمح لنا بالتجارب الخارجيّة لامتحاننا. يقول البابا ديونيسيوس الإسكندري: [ربما تقول: ما هو الفرق بين كون الإنسان يُجَرَّب، وبين سقوطه في تجربة أو دخوله فيها؟ حسنًا متى انهزم إنسان بالشر، ساقطًا بسبب عدم جهاده دون أن يصونه الله بدرعه، نقول أنه دخل في تجربة وسقط فيها وصار أسيرًا تحتها. أما من يثبت ويحتمل فهذا الإنسان يكون مجرَّبًا وليس داخلاً في تجربة أو ساقطًا فيها. هكذا اقتاد الروح السيد المسيح لا ليدخله في تجربة بل ليجربه الشيطان (مت 4: 1). إبراهيم أيضًا لم يُدخله الله في تجربة بل جربه... والرب جرب (امتحن) تلاميذه... هكذا عندما يجربنا الشرير يجذبنا إلى الشر لأنه "مُجرِّب بالشرور". أما الله فعندما يجربنا (يمتحنا) يسمح لنا بالتجارب بكونه غير مُجَرِّب بالشرور. الشيطان يجذبنا بالقوة بقصد إهلاكنا، والله يقودنا بيده ويدربنا لأجل خلاصنا[27]. [ إذن الشر ليس مصدره الله. فلماذا نسقط في الشر؟ "لكن كل واحد يُجَرِّب إذا انجذب وانخدع من شهوته. ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطيّة، والخطيّة إذا كملت تنتج موتًا" [14- 15] أ. الانجذاب والانخداع: يقوم عدو الخير بإثارتنا بمثيرات داخلية وخارجيّة كثيرة بلا حصر، من لذات جسديّة وملذات العالم وكراماته وأحزانه. هذه المثيرات مهما اشتدت ليست لها قوة الإلزام بل الخداع لكي ما يخرج الإنسان من حصانة الله، ويفلت من بين يديه، منجذبًا ومنخدعًا وجاريًا وراء الخطيّة. يؤكد ربنا يسوع المسيح قائلاً: "خرافي تسمع صوتي... ولا يخطفها أحد من يدي" (يو 10: 27-28)، أي لا توجد قوة مهما بلغت يمكن أن تخطف نفس المؤمن الذي يسمع لصوت الرب ويتبعه، أما إن امتنع المؤمن عن الاستماع لصوت الرب وقَبِلَ باختياره الإنصات إلى صوتٍ آخر، للحال ينخدع وينجذب من دائرة الرب إلى دائرة الخطيّة. من يُقبِل إلى الرب لا يخرجه خارجًا (يو 6: 37)، إذ هو الباب إن دخل به أحد يخلص ويجد مرعى (يو 10: 9)، ولكن إن شاء الخروج عن الرب، فلا يلزمه الرب بالبقاء، عندئذ ينطلق من عناية الله تجاه خداعات العدو. ب. الحبل: يُشبِّه الرسول الشهوات بامرأة زانية تجذب إليها الإنسان وتخدعه. وإذ يقبلها ويتجاوب معها يتحد بها فتحبل. "ثم الشهوة إذا حبلت..." أي تكون كالجنين الذي ينمو يومًا فيومًا، الذي هو الخطيّة. ج. الولادة: وإذ يكتمل نمو الجنين تلد ابنًا هو "الموت"، لأن الخطيّة تحمل في طياتها جرثومة الموت. تحدَّث كثير من الآباء عن هذه المراحل الثلاث. فيطالبوننا أن نصارع الخطيّة في طورها الأول وهي تحاول أن تخدع حيث لا سلطان لها علينا، ويمكننا برشم علامة الصليب وبصرخة خفيفة داخليّة تجاه الرب أن نتخلص منها. أما إذا تركنا الخطيّة لتتعدى الطور الأول إلى الثاني حيث نقبلها ونرضيها. فإن إرضاءنا لها– مهما كان إغراؤها– هو بإرادتنا ونحن مسئولون عنه. هذا ما يؤكده القديس مرقس الناسك[28] قائلاً يأنه لا يمكن أن تسيطر علينا خطيّة فجأة، لكن إما أننا سبق أن قبلناها بإرادتنا، أو قبلنا خطيّة مشابهة لها أو باعثة لها. فمثلاً لا تسيطر أفكار شهوة على إنسان عفوًا، اللهم إلاَّ إذا كان قد سبق أن ترك لأفكاره العنان بإرادته يتلذذ بها، أو سقط بإرادته في الكبرياء والعجرفة وحب الظهور الذي يُوَلِّد السقوط، أو سقط في الغضب بإرادته حيث تنزع عنه نعمة الله، أو أتخم معدته وتلذذ بالنَّهم. إذن يليق بنا أن ندرك مراحل الخطيّة الثلاث (الانجذاب لها، التلذذ بها، تنفيذها) حتى نحاربها بالرب يسوع منذ بدايتها. وهذا أكثر أمانًا لنا. وقد تحدث القديس أغسطينوسعن هذه المراحل الثلاث فقال: [الخطية تكمل على ثلاث مراحل: أ. إثارتها (الانجذاب لها والانخداع بها[29]). ب. التلذذ بها (الحبل بها). ج. إرضاؤها (الولادة). تحدت الإثارة عن طريق الذاكرة أو الحواس كالنظر أو السمع أو الشم أو التذوق أو اللمس. فإن نتج عن هذا لذة لزم ضبطها. فلو كنا صائمين، فبرؤيتنا الطعام تثور شهوة التذوق، هذه الشهوة تنتج لذة. فعلينا ألاَّ نرضيها بل نضبطها إن كان لعقلنا – الذي يمنعنا من إرضائها – السيادة. أما إذا أرضيناها فستكون الخطيّة قد كملت في القلب فيعلم بها الله ولو لم يعلم بها البشر. إذن هذه هي خطوات الخطيّة: تتسلل الإثارة بواسطة الحواس الجسدانيّة كما تسللت الحيّة في إثارة حواء، لأنه حيث تسربت الأفكار والتصورات الخاطئة إلى نفوسنا تكون هذه نابعة من الخارج من الحواس الجسديّة. وإن أدركت الروح أي إحساس خفي عن غير طريق هذه الحواس الجسديّة، كان هذا الإحساس مؤقتًا وزائلاً، فتسلل هذه التصورات إلى الفكر في دهاء الحيّة... وكما أن للخطيّة مراحل ثلاث أي الإثارة واللذة والإرضاء، هكذا تنقسم الخطيّة إلى ثلاثة أنواع: أ. خطيّة القلب (لم تنفذ عمليًا). ب. خطيّة بالعمل. ج. خطيّة كعادة. وهذه الأصناف الثلاثة تشبه ثلاثة أموات: أ. الميت الأول كما لو كان في المنزل ولم يُحْمَل بعد، وذلك عند إرضاء الشهوة في القلب (وهو صبية صغيرة). ب. الميت الثاني كما لو كان قد حُمِل خارج المنزل، وذلك عندما يبلغ الرضا حد التنفيذ (وهو شاب أكبر من الصبية). ج. الميت الثالث كما لو كان في القبر قد أنتن، وذلك عندما تكون الخطيّة قد بلغت حد العادة (وهو رجل أكبر من الشاب). ونرى في الإنجيل أن الرب أقام هذه الأنواع الثلاثة من الأموات مستخدمًا عبارات مختلفة عند إقامتهم. ففي الحالة الأولى قال: "طليثا قومي" (مر 5: 41). وفي الثانية: "أيها الشاب لك أقول قم" (لو7: 14). وأما في الثالثة فقد انزعج بالروح وبكى وبعد ذلك صرخ بصوت عظيم "لعازر هلم خارجًا" (يو 11: 33-44).[30]] 4. الله أبونا، لا يهب إلاَّ الصلاح "لا تضلوا يا إخوتي الأحباء . كل عطيّة صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار" [16- 17]. في كل مرة نصلي نقول: "فلنشكر صانع الخيرات..." لأننا لا نعرف مصدرًا للخيرات غير الله. وهنا يحذرنا الرسول ألاَّ نضل، فنظن أنه يمكن أن يصدر عن الله غير الخير والصلاح، أو نحسب أننا نقدر أن ننال صلاحًا بطريق آخر غير الله. نَسَبُ الشر إلى الله ضلال، لأن الله "أب الأنوار". وطلب الصلاح من غير الله ضلال، لأنه هو "أب" لا يقبل أن يلتجىء أولاده إلى أب غيره! إذن كل عطيّة صالحة أي لخيرنا، وكل موهبة تامة مُقدَّمة كهبة مجانيّة ليس فيها عيب أو نقصان هي من فوق نازلة، أي يوجد فيض مستمر من السماء تجاه البشر، من الأب نحو أولاده. يقول الأب شيريمون: [يبدأ الله معنا ما هو صالح، ويستمر معنا فيه، ويكمله معنا. وذلك كقول الرسول "والذي يُقدِّم بذارًا للزارع وخبزًا للأكل سيقدم ويُكَثِّر بذاركم ويُنْمِي غلات برّكم" (2 كو 9: 10). هذا كله من أجلنا نحن، لكي بتواضع نتبع يومًا فيومًا نعمة الله التي تجذبنا. أما إذا قاوْمنا نعمته برقبة غليظة وآذان غير مختونة (أع 7: 51)، فإننا نستحق كلمات النبي إرميا القائل "هل يسقطون ولا يقومون؟ أو يرتد أحد ولا يرجع؟ فلماذا ارتد هذا الشعب في أورشليم ارتدادًا دائمًا، تمسكوا بالمكر، أبوا أن يرجعوا؟" (إر 8: 4-5).[31]] ويؤكد الرسول أنها من عند "أبي الأنوار. الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران". وكما يُدْعَى إبليس أب الأشرار (يو 8: 44)، يُدْعَى الله "أب الأنوار" أي القديسين النوارنيين أو الملائكة. إنه النور الحقيقي وواهب النور. إنه ليس كالشمس المنظورة التي تعكس نورها على الكواكب الأخرى، لكنها تتغير ويأتي اليوم الذي فيه تزول، إنما هو شمس البرّ الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران! أب ينير أولاده، وأبوته المنيرة ثابتة لا تتناقص، يجذب أولاده ليستنيروا منه. كيف يتم ذلك؟ خلال أشعة محبته المعلنة في عطاياه الزمنيّة والروحيّة يجذب أنظارنا وينير عقولنا، فنراه ونعشقه، وعندئذ لا ننشغل حتى بعطاياه الصالحة ومواهبه التامة، إنما نقول له مع القديس أغسطينوس: [قبل هذه الأعمال الجسديّة أعمالك الروحيّة التي هي سماوية ومتلألئة هكذا... لكنني جُعْتُ إليك، وعشطتُ لك... لك أنت بذاتك أيها الحق "الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران[32]".] عطيّة واحدة خلال كل عطاياه التي بلا حصر ومواهبه التامة يلزم ألاَّ تفارق ذهننا أبدًا، وهي عطيّة الميلاد الجديد الذي نلناه بالمعموديّة، فصرنا له أولادًا وهو أب لنا، إذ: "شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه" [18]. يا لها أشرف عطيّة أننا بالرب يسوع "كلمة الحق" الذي مات عنا بالجسد وقام وهبنا بروحه القدوس أن نولد لله والكنيسة ولادة جديدة روحيّة بالمعموديّة. بهذه الولادة يجدر بنا أن نرتبط بالرب يسوع "البكر"، فنصير نحن أيضًا "باكورة من خلائقه". وكما كان الله يُلزِم عابديه أن يقدموا له البكور وأوائل الثمار مخصصة له، معتبرًا أنهم بذلك قدموا كل الثمار له. هكذا يقبلنا الله كباكورة من خلائقه، محفوظين ومخصصين لله (عب 12: 23)، وبهذا نرتبط بكنيسة الأبكار مكتوبين في السماوات. هكذا انتقل بنا يعقوب الرسول الحديث عن التجارب الخارجيّة كمصدر فرح وتطويب للصابرين إلى الجهاد ضد التجارب الداخليّة، أي التحفظ من الخطيّة، ثم عناية الله بنا وتقديم كل إمكانية لنا، معلنًا حبه فيما وهبنا إياه أن نكون أولادًا له. لكن ما موقفنا نحن كأولاد لله؟ هذا يحدثنا عنه الرسول بطريقة عمليّة. 5. موقفنا كأولاد لله أولاً: الإسراع في الاستماع "إذًا يا إخوتي الأحباء. ليكن كل إنسان مسرعًا في الاستماع" [19]. يترجم البعض عبارة "إذًا يا إخوتي الأحباء" "أنتم تعرفون هذا. ولكن يا إخوتي الأحباء..." كأن ما قد سبق أن تحدث به هو أمر يعرفه المؤمنون، كتبه الرسول من أجل التذكرة فقط، وإنما يطلب أن نََتَنَبَّه إلى واجبنا العملي والتزامنا كأولاد لله. وأول واجب نلتزم به هو أننا إذ ولدنا بكلمة الحق بالمعموديّة يليق بنا ألاَّ نفارق "كلمة الحق" بل نسرع دومًا للجلوس عند أقدام ربنا يسوع "كلمة الحق" مع مريم أخت لعازر، مُنْصِتين إلى حديثه العذب المملوء حبًا. هذا هو واجبنا، وهذا أيضًا هو حقنا، وهذا هو نصيبنا الذي لن يُنْزَع منا إلى الأبد، أن نجلس متواضعين عند أقدام الرب يناجينا ونناجيه. حقًا ما أصعب على الإنسان في وسط دوامة هذه الحياة، أن يهرب! يهرب من أجل نفسه التي هي أغلى ما عنده، لكي يخلع عنه كل اهتمام واضطراب مُنصِتًا بكل جوارحه لعريس نفسه، هذا الذي يبعث صوته في داخل النفس سرورًا وفرحًا وتبتهج عظام الإنسان في تواضع وانسحاق وليس في كبرياء وعجرفة[33]. ثانيًا: مبطئًا في التكلم إذ يسرع الإنسان للإنصات إلى كلمة الحق يتشرب بروح أبيه الذي لا يشهد للحق بكثرة الكلام بل بالعمل. وبهذا نتفهم الوصيّة "فليضيء نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات" (مت 5: 16). حسن للإنسان أن يشهد للحق، لكن كثرة الكلام والتسرع فيه يكشفان عن نفسٍ خائرة ضعيفة تخفي ضعفها وراء المظهر، من أجل هذا يوصي الحكيم قائلاً "أرأيت إنسانًا عجولاً في كلامه؟ الرجاء بالجاهل أكثر من الرجاء به" (أم 29: 20). ويقول القديس أرسانيوس معلم أولاد الملوك: [كثيرًا ما تكلمت وندمت وأما عن الصمت فما ندمت قط[34].] وكشف لنا مار إسحق[35] مفهوم الصمت أنه ليس مجرد امتناع عن الكلام بل هو حديث سري مع الرب يسوع، لذلك نصح الراغب في الصمت أن يقتني ثلاث خصال: خوف الله، صلاة دائمة، عدم انشغال القلب بأي أمر. كما يقول أيضًا: [من يريد أن يلازم السكوت من غير أن يقطع علل الآلام فهو أعمى.] إذن كما يقول الكتاب "للسكوت وقت وللتكلم وقت" (جا 3: 7). بوجد ثلاثة أنواع للسكوت وثلاثة أنواع للكلام: 1. الصمت المقدس، وهو أن يصمت الفم ليتكلم القلب مع الله. 2. الصمت الباطل، وهو أن يصمت الفم دون أن ينشغل القلب بالله. 3. الصمت الشرير، وهو أن يصمت الفم وينشغل الداخل بالشر. 1. الكلام المقدس: وهو الحديث الذي يقول عنه القديس باسيليوس الكبير: [يُظهر رائحة بخور تدبيرنا الداخلي المملوءة حكمة[36].] أي يتكلم الإنسان فيما هو لبنيان نفسه وبنيان الآخرين. 2. الكلام الباطل: وهو الحديث الذي ليس للبنيان وبلا معنى، وهذا نعطي عنه حسابًا (مت 12: 36). 3. الكلام الشرير: الذي يهدم النفس ويهدم الآخرين. من أجل هذا يقول الأب بيمين: [إن الصمت من أجل الله جيد، كما أن الكلام من أجل الله جيد[37].] ثالثًا: "مبطئًا في الغضب، لأن غضب الإنسان لا يصنع برّ الله" [20]. دُعِيَ الله بطويل الأناة وبطيء الغضب، لهذا يجدر بأولاده أن يتشبهوا بأبيهم، فلا يطلبوا الانتقام ولا ينفعلوا، بل في طول أناة يترفقوا بالجميع. فغضب الإنسان لا يصنع برّ الله، وكما يقول القديس أغسطينوس أن الإنسان مهما ارتكب من خطيّة يستطيع في نفس اللحظة أن يقف نادمًا ويشعر بمحبة الله طويل الأناة، لكن في لحظات الغضب لا يقدر الإنسان أن يقف للصلاة، بهذا يحرم نفسه من برّ الله. ويقول أيضًا: [لا تظنوا أن الغضب أمر يستهان به، إذ يقول النبي: "تعكرت (ذبلت) من الغضب عيناي" (مز 6: 7)، وبالتأكيد لا يقدر مُتَوَعِّك العينين أن يعاين الشمس، وإن حاول رؤيتها تؤذيه ولا تبهجه[38].] ويوضح لنا يوحنا كاسيان[39] خطورة الغضب فيقول: [يجب أن نستأصل سم الغضب المميت من أعماق نفوسنا. فطالما بقي الغضب في قلوبنا وأَعْمَى بظلمته المؤذية عين الروح (القلب) لا نستطيع الحصول على التمييز والحكم السليم، ولا نستطيع أن ننال النظرة الداخليّة الصادقة أو المشورة الكاملة، ولا أن نكون شركاء للحياة أو نحتفظ بالبرّ، أو حتى يكون لنا المقدرة على النور الروحي الحقيقي "تعكَّرت من الغضب عيناي" (مز 6: 7). ولا نستطيع أن نصير شركاء للحكمة، ولو وُجد حكم جماعي بأننا حكماء، لأن "الغضب يستقر في حضن الجهلاء" (جا 7: 9). ولا نستطيع أن ننال الحياة غير المائتة، لأن الغضب يُهْلِك حتى الحكم (راجع أم 15). ولا نقدر أن نحصل على القوة الضابطة للبرّ حتى لو ظن البشر فينا أننا كاملون وقديسون، لأن "غضب الإنسان لا يصنع برّ الله". كما لا نستطيع نوال الوقار والكرامة التي تُعطَى حتى في العالميات، ولو ظنوا بنا أننا نبلاء وذوو شرف، لأن "الرجل الغضوب يُحتقر". ولا يمكن أن تكون لنا مشورة صالحة... "لأن السريع الغضب لا يعمل بالحق" (أم 14: 17). ولا نستطيع التحرر من أي اضطرابات خطيرة أو نكون بلا خطيّة، ولو لم يسبب لنا أحد اضطرابًا... "لأن الرجل الغضوب يهيج الخصام، والسخوط كثير المعاصي" (أم 29: 22)[40].] رابعًا: مقتلعًا بذار الشر، غارسًا بذار كلمة الله "لذلك اطرحوا كل نجاسة وكثرة شر، فاقبلوا بوداعة الكلمة المغروسة، القادرة أن تخلص نفوسكم" [21]. إذ يحدث الرسول يعقوب الذين وُلِدوا "بكلمة الحق" لهذا يوجه أنظارهم إلى "كلمة الحق" القادرة أن تأتي فيهم بثمر كثير. ولكي تمتليء حياتهم بكلمة الحق ويتجاوبوا معها يَلْزم أن تتم في داخل قلوبهم عمليتان متلازمتان، بل هما عمليّة واحدة لها جانبان، وهي عمليّة طَرْح النجاسة وبَذْر كلمة الله. فبالولادة الثانية صرنا أبناء الله وبسِرّ الميرون حل الروح القدس فينا، وصار لنا بالروح القدس أن نُفْرِغ من قلبنا كل ما هو ليس حقًا (النجاسة) ليملك فينا ما هو حق (كلمة الله). من أجل هذا توصي الكنيسة الإشبين[41]: [ازرعوا فيهم الخصال الجميلة. ازرعوا فيهم الطاعة والمحبة والطهارة. ازرعوا الرحمة والصدقة والعدل. ازرعوا فيهم التقوى والصبر والصلاح...] إذن لنطرح عنا كل نجاسة، وربما قُصِدَ بها هنا الغضب السابق ذكره. ولا نقف عند طرح كل روح الغضب، بل لنقبل في وداعة كلمة الله المغروسة القادرة. هذه الكلمة هي البذار التي تأتي بثمر كثير. نلاحظ أن الرسول يُحَدِّث أناسًا مؤمنين ومُعَمَّدين ومع ذلك يقول: "قادرة أن تخلص نفوسكم" ولم يقل "خلصت نفوسكم"، لأن الخلاص أمر مستمر يعيش فيه المؤمن كل أيام غربته، وليس أمرًا حدث وانتهى. وكأن الرسول ينصحنا أن نخضع بروح الوداعة، لا العجرفة، لكلمة الله، لأنه يلزمنا أن نثابر كل أيام غربتنا حتى لا نفقد الطريق. هذا الخضوع يلزم أن يكون عمليًا وليس مجرد حفظ للكلمة أو استماع نظري لها، إذ يقول الرسول: "ولكن كونوا عاملين بالكلمة، لا سامعين فقط خادعين نفوسكم" ]22[. "لأنه ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله بل الذين يعملون بالناموس هم يبررون" (رو 2: 13). وقد شبه الرب السامعين غير العاملين برجلٍ جاهلٍ يبني بيته على الرمل، فتهب الرياح وتسقط الأمطار فيسقط ويكون سقوطه عظيمًا (مت 7: 26-27)، ويشبهه الرسول بالآتي: "لأنه إن كان أحدكم سامعًا للكلمة وليس عاملاً، فذاك يشبه رجلاً ناظرًا وجه خلقته في مرآة . فإنه نظر ذاته وللوقت نسي ما هو" [23- 24]. يشبهه بالرجل الذي ينظر في مرآة، ومن شيمة الرجال ألا يمعنوا النظر فيها، أما أبناء الله فيليق بهم أن يُمْعِنوا النظر في كلمة الله التي هي كالمرآة تكشف لهم ضعفهم ونقائصهم. وهي أيضًا تُذَكِّرهم بخلقتهم الروحيّة الجديدة أي بميلادهم السماوي، وهذا يبعث فيهم روح الجهاد، ويجعلهم يتجاوبون مع الإمكانيات الإلهيّة الموهوبة لهم. لأنه متى أدرك الإنسان مركزه كابن لله لا يكف عن الالتصاق بأبيه ومناجاته متشبثًا بحقوقه للحياة المقدسة. "ولكن من اطلع على الناموس الكامل، ناموس الحريّة، وثبت، وصار ليس سامعًا ناسيًا، بل عاملاً بالكلمة، فهذا يكون مغبوطًا في عمله" [25]. إذ يُمْعِن النظر في الناموس ناموس الحريّة، أي الإنجيل، الذي حررنا بقوة الدم من سلطان الخطيّة، وَوَهَبْنا حريّة الأبناء، فإنه بهذا تصير كلمة الله بالنسبة له عمليّة، فلا يكون سامعًا ناسيًا بل ثابتة فيه. في أعماق نفسه الداخليّة. هذا العمل يَهَب لنا عذوبة بالرغم من صعوبة الوصيّة، إذ نحمل نيرها لا بتذمر كعبيد أذلاء، ولا من أجل المنفعة كأجراء، بل نفرح بها كأبناء يتقبلون وصيّة أبيهم، لهذا يكون كل منا "مغبوطًا في عمله". بهذا يقول الإنسان لخالقه: "نيرك هيِّن وحِمْلَك خفيف" رغم ما يجاهد به وثابر فيه ويتحمله ويتخلى عنه من أجل الرب! خامسًا: "ملجمًا لسانه" "إن كان أحد فيكم يظن أنه دَيِّنْ وهو لا يلجم لسانه، بل يخدع قلبه، فديانة هذا باطلة" [26]. الديانة الحقيقيّة هي التي تنبع من الداخل، من القلب، إذ "مَجْد ابنة الملك من الداخل"، و"الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يُخرِج الصالحات" (لو 6: 45). على هذا الأساس ظن البعض أنه لا حاجة لضبط اللسان بدعوى أن القلب طيب والعبادة بالروح... لكن الرب الديان يقول: "من فضلة القلب يتكلم اللسان" (مت 12: 34). ويقول الشيخ الروحاني: [من يحذر بلسانه لن يسلب كنزه منه إلى الأبد. فم الساكت يترجم أسرار الله. ومن يتكلم بسرعة يبعد عن خالقه[42].] يقول الأب بيمين: [من يضبط فمه فإن أفكاره تموت، كالجرّة التي يوجد فيها حيَّات وعقارب، سِدْ فمها (فوهتها) فإنها تموت[43].] [وسأل أخ شيخًا: [يا أبي إني أشتهي أن أحفظ قلبي. فقال له الشيخ: كيف يمكنك أن تحفظ قلبك وفمك الذي هو باب القلب مفتوح سايب؟[44] ] إذن من لا يضبط لسانه يخدع قلبه، فبينما يظن أنه دَيِّن إذ بديانته باطلة. سادسًا: يرحم إخوته "الديانة الطاهرة النقيّة عند الله الآب هي هذه افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم" [27]. لم يقل الرسول "الديانة الطاهرة... هي الإيمان" إنما كشف عن الجانب العملي ليس تجاهلاً أو استهتارًا بالإيمان، لكن تأكيدًا للأعمال المرتبطة بالإيمان. فإذ يقيم الآب نفسه أبًا للأيتام وقاضيًا للأرامل (مز 68: 5) لهذا فإن من كانت ديانته طاهرة يلزمه أن يتمثل بأبيه. والجميل في الكنيسة الأولى أنها اهتمت بالأرامل، إذ أعطت للأرامل اللواتي ينذرن أنفسهن للخدمة مكانة خاصة تلي مكانة العذارى مباشرة، حتى أن القديس يوحنا الذهبي الفم عندما أرسل إلى أرملة شابة يعزيها في زوجها هنأها أنها صارت "أرملة[45]". وقد اهتمت الكنيسة بتحويل طاقات هؤلاء الأرامل إلى العبادة أو الخدمة التي تتناسب معهن، الأمر الذي جعل كثيرًا من القديسين كتبوا بفيض عن "الترمل وشروطه وقوانينهن ونظامهن[46]". سابعًا: "وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم" [28]. بدأ أولاً بالترفق بالمتألمين أي اليتامى والأرامل، لأنه بدون رحمة بالآخرين كيف نستعين برحمة الله لكي تحفظنا من دنس العالم وشهواته؟ إذن لنرحم فيما هو قليل ليرحمنا الله في الكثير. وإذ يحفظ الإنسان نفسه بلا دنس، لا يعطي لإبليس أي حق للملكيّة في داخله، بهذا تبقى النفس مقدسة للرب وحده.

رسالة يعقوب - الأصحاح الثانى

صورة فى موقع الموجة القبطية - الكتاب المقدس - العهد الجديد - رسالة يعقوب - الأصحاح الثانى

موقع الموجة القبطية - الكتاب المقدس - العهد الجديد - رسالة يعقوب - الأصحاح الثانى

تفسير رسالة يعقوب - الأصحاح الثانى

صورة فى موقع الموجة القبطية - الكتاب المقدس - العهد الجديد - تفسير رسالة يعقوب - الأصحاح الثانى

تفسير رسالة يعقوب - الأصحاح الثانى

إيمان والأعمال بعدما تحدث الرسول عن موقفنا كأبناء لله عابدين بالحق، بدأ يوجه النظر في هذا الأصحاح إلى أهمية الأعمال للإيمان: 1. الإيمان والمحاباة بين العابدين 1- 3. أولاً: تضاد الله المهتم بالفقراء 4- 5. ثانيًا: الأغنياء أكثرهم يثيرون مشاكل 6- 7. ثالثًا: تملق الأغنياء يكسر الوصية 8-11. رابعًا: احتقار الفقراء يفقدنا الرحمة 12- 13. 2. الاتكال على الإيمان بدون الأعمال 14. أولاً: مثالان لإيمان ميت 15- 18. ثانيًا: مثالان لإيمان حي بالأعمال 20- 24. ثالثًا: ضرورة تلازم الإيمان مع الأعمال 25. 1. الإيمان والمحاباة بين العابدين "يا اخوتي لا يكن[47] لكم إيمان ربنا يسوع المسيح رب المجد في المحاباة" [1]. يلقب الرسول ربنا يسوع المسيح بـ "رب المجد" لكي يرفع أنظار المؤمنين إلى المجد السماوي الحقيقي، فلا يحابون الناس على أساس الغنى والكرامة والمجد زمني، بل يحبون الكل كإخوة لهم ميراث أبدي مرتبطون بإيمان الرب. خلال هذه الإخوّة يوجه لهم الحديث قائلاً: "يا إخوتي"، مُظهِرًا أنه لا بوجد تحيز ولا محاباة بل الكل عضاء لجسدٍ واحدٍ. هذا هو الإيمان الحي العامل. وكما يقول القديس إكليمنضس أسقف روما: [لا وجود للعظيم بغير الصغير، ولا للصغير بدون العظيم، بل يرتبط بعضنا البعض لأجل نفع الجميع. لنأخذ الجسد كمثال: فالرأس لا يقدر أن يوجد بغير الرجلين، ولا الرجلان بغير الرأس، "بل بالأولى أعضاء الجسد التي تظهر أضعف هي ضرورية" (1 كو 12: 21-22)، ونافعة للجسد كله. نعم إن الأعضاء كلها تعمل في وفاق، وترتبط مع بعضها في طاعة كاملة لأجل سلامة الجسد كله. بهذا نحفظ جسدنا المسيحي أيضًا في كماله، فيخضع كل منا لصاحبه حسب عطيّته الخاصة. فيلزم على القوي أن يهتم بالضعيف، والضعيف أن يحترم القوي. ويعول الغني الفقير، والفقير يشكر الله الذي وهبه من يعوله. والحكيم لا يُظهِر حكمته في كلام بل في أعمال صالحة. والمتواضع لا يتباهى بتواضعه بل يترك الشهادة له من الغير. والعفيف أيضًا لا يفتخر عالمًا أن ضَبْطَ نفسه هو عطيّة من آخر (الله). يلزمنا أن نحب الإخوة من القلب، هؤلاء الذين خلقوا من نفس المادة التي خلقنا نحن منها[48].] الإيمان يلزم ترجمته عمليًا في عمل المحبة الذي يجعلنا نحب الجميع بلا تمييز أو محاباة. وقد كشف الرسول عن علامة المحاباة وخطورتها قائلاً: "فإنه إن دخل إلى مجمعكم رجل بخواتم ذهب في لباس بهيّ، ودخل أيضًا فقير بلباس وسخ . فنظرتم إلى اللابس اللباس البهيّ، وقلتم له اجلس أنت هنا حسنًا، وقلتم للفقير قف أنت هناك أو اجلس تحت موطيء قدميَّ " [2- 3]. كيف لا تكون هناك محاباة بين العابدين إن حدث هذا التمييز؟ 1. تمييز الغني بالقول له "اجلس أنت هنا حسنًا". لم يقل الرسول "إن دخل إلى مجمعكم غني" بل "إن دخل إلى مجمعكم رجل بخواتم ذهب في لباس بهيّ" أي إنسان عليه علامات الغنى والكبرياء. إذ كان بعض الرجال الأغنياء يلبسون خواتم ذهبيّة كثيرة ويهتمون باللباس البهيّ الفاخر لنوال الكرامة والمجد الزمني. ويكشف الرسول عن روح المحاباة ليس فقط في تقديم الأغنياء في أماكن خاصة في أماكن العبادة، بل يقول "ونظرتم إلى الملابس..." أي أعطيتم لهم أهميّة. ولم يقل "دخل إلى كنيستكم" بل "إلى مجمعكم"، وربما هذا للتوبيخ إذ لا يليق هذا التحيز بالكنيسة. 2. احتقار الفقير بأمره بالوقوف أو الجلوس عند أقدام الغني يقول القديس إأمبروسيوس: [ما هو النفع الذي يعود عليك بتكريمك (محاباتك) للغني؟ هل لأنه أكثر استعدادًا لإبقاء محبة الآخرين له؟ فنقدم المعروف لمن نتوقع منهم أنهم سيوافوننا عنه. إنه يلزمنا أن نفكر بالأكثر فيما يخص الضعفاء والمحتاجين لأننا بسبب هؤلاء نترجى الجزاء من الرب يسوع، الذي في مثال وليمة العرس (لو 14: 12-13) قدّم لنا صورة عامة للفضيلة. فقد طلب منا أن نقدم أعمالنا بالأكثر لمن ليس في قدرتهم ردها لنا[49].] وخطورة التمييز بين الأغنياء والفقراء هي: أولاً: تضاد الله المهتم بالفقراء "فهل لا ترتابون في الأمر وتصيرون قضاة أفكار شريرة. اسمعوا يا إخوتي الأحباء، أمَا اختار الله فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان وورثة الملكوت الذي وعد به الذين يحبونه، وأمَّا أنتم فأهنتم الفقير" [4- 5]. وكأن الرسول يقول: هل يحتاج الأمر إلى تفسير أو توضيح؟ أمَا تحكم عليكم ضمائركم في داخلكم من جهة أفكاركم الشريرة هذه؟ وكما يقول القديس أمبروسيوس: [إن كان ملكوت الله للمساكين فمن هو أغنى منهم؟] وكما يقول القديس أغسطينوس: [الجميع عند الله متساوون، إنما تسمو منزلة كل واحد منهم حسب إيمانه وليس حسب أمواله.] هكذا لا يميز الله بيننا حسب غنانا، بل أعطى اهتمامًا بالفقراء من أجل مذلتهم، واعتبر كل إهانة تلحق بهم مُوَجَّهَة ضده، لهذا ينصحنا الكتاب المقدس قائلاً: "من قدم ذبيحة من مال المساكين فهو كمن يذبح الابن أمام أبيه" (سي 34: 24). من أجل هذا تقف الكنيسة نصيرة للمساكين، موبخة الأغنياء الظالمين، حتى قال القديس يوحنا ذهبي الفم: [كثيرون ينتهرونني قائلين: أنت دائمًا تُضيِّق على الأغنياء، وهم بالتالي يُضيِّقون على الفقراء. حسنًا إنني أُضيِّق على الأغنياء، أو بالحري ليس على الأغنياء بل على الذين يُسيئون استخدام الأموال. فأنا لا أهاجم أشخاصهم بل جشعهم. فالغِنَى شيء والجشع شيء آخر، وجود فائض شيء والطمع شيء آخر. هل أنت غني؟ أنا لا أمنعك من هذا. كن هل أنا جشع؟ إنني أتوَعَّدك... إنني لن أسكت. هل تهاجمني بسبب هذا؟ إنني مستعد أن يُسْفَك دمي، لكنني أريد أن أمنعك عن أن تخطيء. إنني لا أُكِنُّ لك بغضة، ولا أشنّ عليك حربًا، إنما أريد أمرًا واحدًا هو نَفْع المستمعين إليَ. إن الأغنياء هم أولادي، والفقراء أيضًا أولادي. إن رَحمًا واحدًا (المعموديّة) تَمَخَّض بهم بشدة. فالكل هم نسل لمن تَمَخَّض بهم. فإن كنت تَكيل الإهانات للفقير، فإنني أَتَوَعَّدك لأن الفقير في هذه الحالة لا تحل به خسارة مثلك. لأنه لا يسقط في الخطأ بل ما يصيبه من خسارة هو مجرد فقدانه المال،أمَّا أنت فكغني تلحق بك الخسارة في روحك[50].] ثانيًا: كثير من المشاكل يسببها الأغنياء "أليس الأغنياء يتسلطون عليكم؟ وهم يجرونكم إلى المحاكم! أمَّا هم يُجَدِّفون على الاسم الحسن الذي دُعِيَ به عليكم!" [6- 7]. كأن الرسول يقول: لماذا تحابون الأغنياء مع أن أغلب المشاكل تنبعث منهم؟ تطلَّعوا فإن الأمم الوثنيين قَبِلوا الكلمة بإيمانٍ وفرحٍ (أع 13: 48)، بينما ثار اليهود الأغنياء ماديًا وأغنياء في الاعتداد بالذات وحب الكرامة الزمنيّة ضد الإيمان، إذ يقول سفر الأعمال "ولكن اليهود حركوا النساء الشريفات ووجوه المدينة وأثاروا اضطهادًا على بولس وبرنابا وأخرجوهما من تخومهم" (13: 50). وظاهر من قول الرسول "يتسلطون عليكم" إن احترامهم وتملقهم ومحاباتهم للأغنياء لا يقوم على أساس الحب والاحترام بل التملق والمداهنة. ثالثًا: تملقهم ينافي الناموس "فإن كنتم تكملون الناموس الملوكي حسب الكتاب تحب قريبك كنفسك فحسنًا تفعلون. ولكن إن كنتم تُحابون تفعلون خطيّة، مُوَبَّخين من الناموس كَمُتَعَدِّين" [8- 9]. فلو أن تكريمهم نابع عن الحب لكان في ذلك تكميل للناموس الملوكي، وكان عملهم هذا حسنًا جدًا. لكن إذ الدافع هو المحاباة، لذلك فقد انحرفوا وتعدوا الناموس، وصار عملهم خطيّة. وقد دعا القديس إكليمنضس السكندري[51] الذين لا يعملون بالحب ولا يخدمون إخوتهم أنهم غير سالكين في "الطريق الملوكي". لقد دُعِيَت "المحبة" بالناموس الملوكي. 1. لأنها شريعة ملكوت السماوات وقانونها الذي يسود السماء إلى الأبد. 2. لأنها الطريق الذي يبلغ بنا إلى ملك الملوك ذاته، بل هو نفسه "المحبة"، أي هو "الطريق". وقد أوضح لنا الرب أنه بالمحبة يتعلق الناموس والأنبياء (مت 22: 40) "لأن كل الناموس في كلمة واحدة يُكْمَل: تحب قريبك كنفسك" (غل 5: 14). يقول القديس أغسطينوس: [يقول الرسول: المحبة هي تكميل الناموس. فإذا وجدنا المحبة ماذا نحتاج بعد! وإذا خسرنا المحبة أي ربح يمكننا أن نجنيه؟ لنتمسك بوصية الرب (يو 15: 12) بأن نحب بعضنا بعضًا وبهذا نُنَفِّذْ كل الوصايا.] إذن فلنحرص على حفظ الوصيّة أي محبة القريب حتى لا نكسر الناموس. "لأن من حفظ الناموس، وإنما عثر في واحدة فقد صار مجرمًا في الكل. لأن الذي قال لا تزن،ِ قال أيضًا لا تقتل. فإن لم تزنِ ولكن قتلت فقد صرت متعديًا الناموس" [10- 11]. يثير هذا النص تساؤلاً: هل كل الخطايا متشابهة، فمن يقتل عمدًا كمن يكذب عن إكراه؟ لقد كتب القديس أغسطينوس[52] رسالة إلى القديس چيروم يشرح له فيها هذا النص وقد أوضح فيها: 1. أن الخطايا بالعمد مثل القتل عمدًا ليس كالهفوات التي تصدر عن ضعفٍ بشريٍ أو بغير إرادةٍ أو عن جهلٍ. غير أن جميع الخطايا عقابها الموت الأبدي، وجميع الخطايا لا يمكن التطهير منها إلاَّ بدم السيد المسيح. 2. يقصد الرسول بهذا النص أن خطيّة "عدم المحبة" والاستهانة بالفقير ومحاباتنا للأغنياء، تجعلنا نكسر الناموس كله. ويجدر بنا أن نلاحظ: 1. أن قول الرسول "وإنما عثر في واحدة" تعني هنا الاستهانة بها، وبالتالي الاستهانة بواضع الوصيّة. 2. يريد الرسول منا أن نجاهد ضد الثعالب الصغيرة، لأن البشر غالبًا ما يهتمون بالخطايا التي بحسب نظرهم كبيرة لكنهم لا يهتمون بما يحسبونه خطيّة صغيرة. وبهذا يغلق الرسول باب الخداع الذي تفتحه لنا الخطيّة لنستهين بها. 3. هذا لا يعني أن المؤمنين لا يخطئون قط، وإنهم إن أخطأوا ولو عن جهل أو بغير إرادة أو في ضعف يفقدوا كل شيء، إنما يوجه الرسول أنظارنا إلى الصليب، فمهما كانت الخطيّة يَلزَم التوبة عنها. رابعًا: احتقار الفقراء يفقدنا الرحمة "هكذا تكلموا وهكذا افعلوا كعتيدين أن تُحاكَموا بناموس الحريّة. لأن الحُكْم بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة. والرحمة تفتخر على الحُكْم" [12- 13]. "هكذا تكلموا وهكذا افعلوا" أي ليكن هو موضوع كرازتكم وموضوع سلوككم أن تصنعوا الرحمة مع إخوتكم فتنالوا رحمة يوم الدين. فإذ نُحاكَم بناموس الحريّة هكذا لا نتمتع بالتحرر الأبدي من الكثير ما لم نعتق إخوتنا مما هو قليل وزمني، ولا ننتفع بمراحم الله غير المحدودة ما لم نترفق بإخوتنا فيما هو محدود. وقد ضرب لنا الرب مثلاً بالعبد الشرير الذي سامحه سيده بعشرة آلاف وزنة أمَّا هو فلم يسامح أخاه في مئة دينار، بل أمسك به وأخذ بعنقه وألقاه في السجن بوحشيَّة، فخسر الأول ما قد سامحه به سيده (مت 18: 23-34). يقول القديس باسيليوس الكبير: [من أجل أنك لا ترحم الآخرين فلا يصنع بك رحمة. ولأنك أغلقت باب بيتك إزاء المساكين فلا يفتح لك الله باب ملكوته، وكما أمسكت بالخبز عن البائسين حينما كانوا يطلبونه منك هكذا يمسك الله عنك الحياة الأبديّة التي تطلبها. إنكم ستحصدون ما زرعتم. فإن كنتم قد زرعتم المرارة فستحصدون المرارة، وإن زرعتم القسوة فلا تحصدون سوى الأتعاب القاسية والعذابات الهائلة. وإن كنتم قد هربتم من الرحمة تهرب الرحمة منكم، وإن رذلتم الفقراء يرذلكم ذاك الذي صار فقيرًا حبًا فيكم[53].] 2. الاتكال على الإيمان بدون الأعمال يجدر بنا أن نراعي أن الرسول يعقوب كان يحث أناسًا مؤمنين انحرف بعضهم في سلوكهم تحت دَعْوَى أن دم المسيح يطهر وكافٍ لخلاصهم دون حاجة إلى الجهاد والمثابرة، لذلك وجه إليهم الحديث قائلاً: "ما المنفعة يا إخوتي إن قال أحد أن له إيمانًا ولكن ليس له أعمال؟ هل يقدر الإيمان أن يخلصه؟" [14]. لقد سبق أن رأينا أن الأعمال التي يقصدها الرسول يعقوب غير ما قصده الرسول بولس. فالإيمان وحده لا يقدر أن يخلص، فحنانيا وسفيرة آمنا بالرب لكن بسبب انحرافهما عن السلوك في النور هلكا (أع 5: 9). ويذكر لنا الرب (مت 7: 21-23) من بين الهالكين أناسًا مؤمنين بل وأصحاب مواهب ومعجزات لكن إذ ليس لهم أعمال يقول لهم "إني لا أعرفكم قط، اذهبوا عني يا فاعلي الإثم". وإذ تحدث البابا أثناسيوس الرسولي عن أهمية الأعمال قال إن الرسول بولس دائمًا يبدأ بالحديث عن الإيمان، ولا نفع لإيماننا بغير أعمال. يقول البابا: [بحق يَلزمنا أن نبحث في الفكر الرسولي، لا في بداية الرسائل بل وفيما جاء بنهايتها وفي صُلْبِها حيث يورد المعتقدات (الإيمان) والنصائح (الأعمال)... وقد استخدم موسى المؤمن – خادم الله – نفس الطريقة لأنه عندما أذاع كلمات الشريعة الإلهيّة، تكلم أولاً عن الأمور الخاصة بمعرفة الله... (تث 6: 4) وبعدما أشار للشعب عن الله وعلمهم بمن يؤمنون به وأخبرهم عن الله الحقيقي، عندئذ بدأ يقدم الشريعة الخاصة بالأمور التي بها يكون الإنسان مرضيًا لله قائلاً: "لا تزنِ. لا تسرق" مع بقيَّة الوصايا. هكذا بحسب التعليم الرسولي: "يجب أن الذي يأتي إلى الله يؤمن بأنه موجود، وأنه يجازي الذين يطلبونه" (عب 11: 6). الآن فإنه يُبْحَث عن الله عن طريق الأعمال الصالحة كقول النبي: "اطلبوا الرب ما دام يُوجد. ادعوه وهو قريب. ليترك الشرير طريقه ورجل الإثم أفكاره" (إش 55: 6-7) [54].] أولاً: مثالان لإيمان ميت 1. "إن كان أخ وأخت عريانين ومعتازين للقوت اليومي. فقال لهما أحدكم امضيا بسلام استدفئا واشبعا، ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد فما المنفعة؟ هكذا الإيمان أيضًا، إن لم يكن له أعمال ميت في ذاته" [15 -17]. يشبه الإيمان بغير أعمال بالحنو الكلامي تجاه المتألمين دون محاولة التنفيذ. ونلاحظ أن الرسول يقول: "إن كان أخ أو أخت" ليظهر مقدار المسئوليّة تجاههما، كما يتحدث عن مقدار الضنك الذي بلغاه، ثم يُحمِّل الكنيسة المسئوليّة إذ يقول: "لم تعطوهما" بصيغة الجمع مع أنه سبق فتحدث بصيغة المفرد "أحدكم". "لكن يقول قائل أنت لك إيمان وأنا لي أعمال. أرِني إيمانك بدون أعمالك، وأنا أُريك بأعمالي إيماني" [18]. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [هل تعليمنا ضعيف؟ إن كنت مسيحيًا آمن بالمسيح، وإن كنت تؤمن به أرني إيمانك بأعمالك[55]؟] فالأعمال الحيّة برهان على وجود الإيمان وحيويته إذ "من ثمارهم تعرفونهم" (مت 7: 16)، بل وبرهان على أننا سالكون حسب الولادة الجديدة إذ "بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس" (1 يو 3: 10). وهي برهان ليس أمام الناس بل ويجازينا الله حسبها، إذ "يجازي كل واحد حسب عمله" (مت 16: 27). لقد أعلن اللص عن إيمانه بأعماله، إذ شهد للرب واعترف له في أحلك اللحظات التي تركه فيها الجميع (لو 23: 41)... اعترف علنًا بلا خجل بصليب الرب، وأشكر واحتمل الألم بلا تذمر. اعترف، أليس هذا عملاً؟ 2. "أنت تؤمن أن الله واحد حسنًا تفعل. والشياطين يؤمنون ويقشعرون" [19]. هذا هو المثال الثاني للإيمان الميت وهو التشبّه بالشياطين. يعلق القديس أغسطينوس قائلاً: [إنك تمدح نفسك لأجل إيمانك هذا... حسنًا تفعل! والشياطين يؤمنون ويقشعرون فهل يعاينون الله؟ إن أنقياء القلب وحدهم هم الذين يعاينونه (مت 5: 8)، فمن يقدر أن يقول أن الشياطين نقيّة القلب؟ ومع هذا فإنهم يؤمنون ويقشعرون! لذلك ينبغي أن يوجد فارق بين إيماننا وإيمان الشياطين، فإيماننا ينقي القلب، وأما إيمانهم فيجعلهم مذنبين. هم يفعلون الشر، ومع ذلك يقولون: "نحن نعرفك، مَنْ أنت قدوس الله" (لو 4: 34). وهو ما قاله أيضًا بطرس "أنت هو ابن الله" فمدحه الرب بينما وبخ الشياطين... فأي إيمان هو هذا الذي ينقي القلب إلاَّ الذي عرّفه الرسول بأنه "الإيمان العامل بالمحبة[56]"؟] ويقول أيضًا: [هكذا أيضًا عندما تسمع من "من آمن واعتمد وخلص" (مر 16: 16). فبالطبع لا نفهمها على أنه يقصد كل من آمن أيًا كان إيمانه "فالشياطين يؤمنون ويقشعرون". وكما لا نفهمها على جميع من اعتمدوا، فسِيمُون (الساحر) رغم قبوله المعموديّة إلاَّ أنه لم يكن من السهل أن يخلص[57].] ثانيًا: مثالان لإيمان حي بالأعمال 1. "ولكن هل تريد أن تعلم أيها الإنسان الباطل أن الإيمان بدون أعمال ميت؟ ألم يتبرر إبراهيم أبونا بالأعمال، إذ قدم إسحق ابنه على المذبح؟ فترى أن الإيمان عَمِلَ من أعماله، وبالأعمال أُكْمِلَ الإيمان. وتم الكتاب القائل: فآمن إبراهيم بالله فَحُسِبَ له برًا، ودُعِيَ خليل الله. ترون إذًا أنه بالأعمال يتبرر الإنسان، لا بالإيمان وحده" [20- 24]. إذ يوجه الرسول حديثه إلى إنسان إيمانه باطل بسبب عدم الأعمال لذلك يدعوه "أيها الإنسان الباطل"، وذلك مثل إيمانه الذي بلا عمل. وقد ضرب لنا مثلاً بأب الآباء الذي حُسِبَ له إيمانه برًا، وقد دُعي صديق الله، ولكن كيف نال هذا؟ بالأعمال أكمل إيمانه. والعجيب أن المثال الذي استخدمه الرسول بولس (رو 4: 3؛ غل 3: 6) لتأكيد أهمية الإيمان وحده دون أعمال الناموس هو نفسه المثال الذي استخدمه يعقوب الرسول لتأكيد الأعمال المكملة للإيمان. وقد أورد الرسول بولس نفس المثال في الرسالة إلى العبرانيين مُظهرًا الإيمان والأعمال معًا قائلاً: "بالإيمان إبراهيم أطاع". كما أكد يشوع بن سيراخ إيمان إبراهيم وأعماله (سي 44: 20-21). 2. "كذلك راحاب الزانية أيضًا أما تبررت بالأعمال، إذ قبلت الرسل، وأخرجتهم في طريق آخر" [25] لقد شهد شعب أريحا بقوة الله (يش 2: 9)، لكن لم ينتفع أحد بهذه الشهادة إلاَّ راحاب لأنها ربطت إيمانها بالعمل فصار حيًا[58]. ثالثًا: مثال لارتباط الإيمان بالأعمال "لأنه كما أن الجسد بدون روح ميت هكذا الإيمان بدون أعمال ميت" [26]. إلى هذه الدرجة يوضح الرسول أهمية الأعمال حتى حسبها كالروح بالنسبة للجسد. لقد دعاهما البابا أثناسيوس الرسولي بأختين قائلاً: [الإيمان والأعمال أختان مرتبطتان ببعضهما البعض. فمن يؤمن بالرب يكون نقيًا، ومن يكون نقيًا فهو مؤمن بالأكثر. لهذا فمن هو شرير يكون بلا شك ضالاً عن الإيمان، ومن يترك التقوى يتخلى عن الإيمان الحقيقي. وكما أنه عندما يساعد الأخ أخاه يصيران حصنين لبعضهما البعض، هكذا أيضًا الإيمان والصلاح، إذ ينموان متشابهين مُمْسِكَيْن ببعضهما البعض، فمن يختبر أحدهما يتقوى بالآخر. لذلك إذ يرغب الرسول في أن يتدرب التلميذ على الصلاح حتى النهاية وأن يجاهد من أجل الإيمان نصحه قائلاً: "جَاهِدْ جهاد الإيمان وتمسك بالحياة الأبديّة" (1 تي 6: 12)[59].] هكذا فإن المسيحيّة ليست فلسفة فكريّة بل حياة في نور ربنا يسوع.

رسالة يعقوب

رسالة يعقوب

العهد الجديد

الكتاب المقدس

 موقع الموجة القبطية  - الكتاب المقدس - العهد الجديد copticwave.org The Holy Bible - The New Testament
صورة فى موقع الموجة القبطية - الكتاب المقدس - العهد الجديد

العهد القديم

الكتاب المقدس

 موقع الموجة القبطية  - الكتاب المقدس - العهد القديم copticwave.org The Holy Bible - The Old Testament
صورة فى موقع الموجة القبطية - الكتاب المقدس - العهد القديم

الاسفار القانونية الثانية

الكتاب المقدس

خدمات الموجة القبطية